لم يعد خافيا علي أحد ذلك التغرير والتلاعب بعقول الشباب من قبل بعض التيارات الدينية والسياسية, والتي جعلت من الشباب قنابل موقوتة تهدد أمن واستقرار المجتمع في كثير من الأحيان. وإذا كانت دار الإفتاء والمؤسسات الدينية في مصر أكدت أن الخلاف في مصر ليس خلافا دينيا, فإن علماء الاجتماع وخبراء الصحة النفسية يؤكدون ان افتقار الشباب إلي القدوة والأسوة الحسنة التي يمكن أن توجهم وترشدهم, وانتشار البطالة والعنوسة, وعدم الحرص علي توظيف طاقات الشباب وتراجع دور الأسرة, كل هذه الموضوعات أدت إلي الاستجابة غير الواعية لبعض الشباب لجماعات دينية تنشر بينهم الفكر الديني غير الواعي. ويؤكد الدكتور سيد صبحي أستاذ الصحة النفسية والعلاج النفسي, وعميد كلية التربية النوعية الأسبق بجامعة عين شمس, إن الشباب لابد أن يتعلموا أن الفكر الديني للتفكي, أما أن نفكر دينيا علي اعتبار أن ما نفكر فيه هو فقط القول الحق والصدق, فهذا يؤدي إلي العمي الفكري والعمي الوجداني, ولعل ذلك ما جعل بعض الشباب لا يفكرون إلا في معاملة من يخالفهم بالعنف وعدم التفاهم وعدم الشوري في الرأي, وهذا ما يدعونا إليه الفكر الديني الواعي السليم. ولكن الذي حدث لبعض الشباب الذين وضعوا أنفسهم في الأسر الفكري وحكموا علي أنفسهم بالعزلة عن الفكر المتسيد للآخرين هؤلاء هم الذين صنعوا هذا التوتر وهذا الجمود الجذري الذي لا يعرفه الدين الإسلامي الحنيف, لأن الدين الإسلامي أساسه الفكر الواعي وتبادل الآراء, وإذا كان هناك خلاف فإن الغلبة دائما لمن يستند إلي قول الحق, تلك هي القضية الأساسية, فمن عزل نفسه في هذا الإطار المتحجر حكم علي نفسه بالموت قبل الأوان, لأن الفكر الواعي المتدين الحصيف هو ذلك الذي يتميز بالمرونة والأخذ والعطاء والتشاور والتنبه إلي أن من الخطأ أن يعتقد أي فرد من الأفراد أن ما يقوله هو الحق, لأن الرأي دائما يخضع للمناقشة, والرأي دائما يخضع للتبادل والأخذ والعطاء, فنحن دائما في حاجة إلي أن ننبه الشباب.. انتبهوا استيقظوا.. لأن الفكر لا يمكن أن يسود سليما إلا علي مسرح التفاهم ومسرح الشوري والتبادل بعيدا عن الجمود والتحجر والتعصب. انتشار الأمية الدينية ويري د.نبيل السمالوطي عميد كلية الدراسات الإنسانية سابقا وأستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر أن في مصر نسبة عالية من الأمية الدينية حتي بين المتعلمين وخريجي الجامعات, لأن الدين أو التربية الدينية لا تدرس بالشكل الواجب في المدارس فهي مادة هامشية لا تضاف إلي المجموع, أما في المرحلة الجامعية فتنقطع تماما صلة الطالب بالفكر الديني إلا في الكليات الشرعية فقط, وهذه هي الحقيقة الأولي, فأكثر من أربعين بالمائة من الشعب المصري يجهل حقيقة الدين كعقيدة وكشريعة وكأخلاق وكحضارة. الحقيقة الثانية أن الشعب المصري منذ إخناتون, مرورا بالعصر المسيحي ثم الإسلامي, شعب متدين يهفو إلي الدين ويتلمسه من أي مصدر, ولا يستطيع أن يفرق بين المصادر الصحيحة, وهم علماء الشريعة المتخرجون في جامعة الأزهر, وبين أدعياء الدين المنتشرين في كل ربوع مصر. هاتان الحقيقتان: تدين الشعب المصري وحبه الفطري والتاريخي للدين, وجهله بحقائق الدين الصحيح تجعلانه عرضة لأن يكون فريسة سهلة لأدعياء الدين. ومن هنا نستطيع تفسير انتماء العديد من طلاب الجامعات, خاصة الكليات العلمية كالطب والهندسة وغيرهما, إلي جماعات تدعي التدين وهي أبعد ما تكون عن حقيقة الدين مثل جماعات التكفير والهجرة وجماعات الجهاد التي تعتبر أن المجتمع كافر, وأنه يجب تغييره بالقوة وليس بالتربية أو الدعوة أو التعليم أو التدرج.. هذه هي أهم ما جاء في كتب سيد قطب, خاصة معالم علي الطريق, وهذا ما يفسر لنا سهولة التغرير بالعديد من شباب مصر المتعلمين, فضلا علي أنصاف المتعلمين والجهلاء, يضاف إلي هذا أن ما تسمي القنوات الدينية في التليفزيون فشلت تماما في توصيل صحيح الدين في سماحته ووسطيته ويسره وحفاظه علي كرامة الإنسان وعلي حقوقه وعلي حرياته, وفي مقدمتها حرية العقيدة, وفي تأكيد الدين علي فكرة المواطنة, بمعني حقوق كل من يعيش علي أرض الوطن في الحريات والحقوق دون تمييز علي أساس الدين أو العرق أو الانتماءات الفئوية أو الطبقية أو الجغرافية. هذا إلي جانب أن هذه القنوات الدينية انطلقت لإصدار فتاوي دينية ما أنزل الله بها من سلطان ومن غير متخصصين, مما أدي إلي إشعال الفتنة بين جماهير الشعب المصري, يضاف إلي كل هذا أن هذه القنوات كانت تتصارع لاجتذاب الشعب إلي تيار ديني معين بشكل لا يتفق مع وسطية الإسلام; مما أدي أيضا إلي سهولة وقوع شباب مصر فريسة في أيدي أدعياء الدين من الجهلاء ومن أصحاب المصالح الخاصة التي تتناقض مع المصالح العامة التي يؤكدها الدين الإسلامي, يضاف إلي كل هذا أن المساجد أو المؤسسة الدينية في مصر أيضا تسهم في هذه الصراعات الفكرية والانقسامات الفكرية وبعض الأفكار الخاطئة عن الدين, فالعديد من الأئمة والخطباء ينتمون إلي تيارات دينية بعضها متطرف والعديد منهم لم يتخرج في كليات شرعية تؤهله لتولي موقع الخطابة والوعظ والإرشاد والدعوة إلي صحيح الدين. هذه بعض الأسباب الحقيقية التي تجعل العديد من شباب مصر في حالة تمزق وفتنة وصراع فكري حول قضايا الشرع, بحيث يصبحون فريسة سهلة لأي من أدعياء الدين, خاصة التيارات المتطرفة أو الجهادية أو الدموية البعيدة تماما عن حقيقة الدين الإسلامي الذي تعبر عنه بوضوح وجلاء مؤسسة الأزهر علي مدي أكثر من ألف عام. مهمة الدين الأساسية ويؤكد د.محمد عطية أستاذ الصحة النفسية بجامعة القاهرة أن مهمة الدين الأساسية الحث علي مكارم الأخلاق, لأن الأسرة هي التي ترمي اللبنة الأولي في مكارم الأخلاق, لكن للأسف الشديد الأسرة تعرضت في السنوات الأخيرة لعوامل كثيرة من الهدم وضوائق كثيرة بداية من الضائقة الاقتصادية والضائقة السكنية ومشاكل اجتماعية كثيرة, كل ذلك ألهي الأسرة عن مهمتها الأساسية, وتفرغ الأولاد إلي بناء منظومة أخلاقية ذاتية, ومع ذلك فالعيب ليس في الأسرة ولكن في تقاعس الدولة عن مهمتها الأساسية وهي رعاية مؤسسة الأسرة, وهي المؤسسة المنوط بها إهداء المجتمع أطفالا أصحاء بدنيا ونفسيا وعقليا, إذن لا بد أن تقوم الدولة بمهمتها الأساسية في رعاية الأسرة, ونتج عن إهمال الدولة مهمتها الأساسية ما نراه الآن من أخلاقيات متدنية, وللأسف ترتدي رداء الدين, وفي كثير من الأحيان أصحاب هذه الأخلاق المتدنية الذين يرتدون رداء الدين لا يدركون أنهم لا يدركون الدين الصحيح, لماذا؟ لأنهم لم يخضعوا لرعاية من الأسرة ولا حتي من الدولة, وحين أهملت الدولة مهمتها الأساسية في رعاية الأسرة لم تدرك أنها أسهمت في خلق جيل جديد يحمل أفكارا ضد المجتمع تغلف للأسف الشديد ذ, لم يشعر يوما بالانتماء, وكنا نرفع له شعارا بغيضا عبر وسائل الإعلام, هذا الشعار يقول ما نقولش إيه إديتنا مصر ونقول هاندي إيه لمصر, فخلقنا جيلا مشوها, هذا الجيل المشوه أصبح من السهل تماما أن ينقاد وراء أي دعوات كدعوة الهجرة خارج البلاد أو الهجرة داخل البلاد, وتفرقوا شيعا وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتي, وهذا ما نراه الآن, نري جيلا لا يستطيع أن يميز المشهد الحالي, فالمشهد الحالي الذي نعيشه هو خلاف سياسي بحت, خلاف في الرؤي السياسية, ومع ذلك نري كثيرا من الشباب لا يدرك هذه الرؤية, ويتصور أن هذا الخلاف هو خلاف ديني, ويطالب بالشرعية وهو يقصد الشريعة, ويخلط ما بين الاثنين, ويسمع دعوات لا يستطيع حتي أن يستنكرها, مثلا نراه يسمع أحدهم, وأحدهم هذا أحد الكوادر في جماعة تلتهم عقول الشباب يقول إنه رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم في المنام يطلب من الرئيس السابق مرسي أن يؤمه في الصلاة ويؤم جماعته, ويقول آخر من نفس الجماعة إن سيدنا جبريل معتصم في رابعة العدوية مع الجماعة! قل عقول الشباب فلم ينكروا مثل هذه الأقوال وهم يعلمون تماما أنه لا يمكن لأي عقل مسلم أن يتصور أن الرسول- صلي الله عليه وسلم- يطلب من آحاد الناس أن يؤمه في الصلاة هو وجماعته, ونحن نعلم أن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- سوف يشفع لنا جميعا, فما قيل هو ضد عقيدته الدينية, وبالرغم من ذلك صدقه الشباب, ثم هناك أحاديث قاطعة أن سيدنا جبريل لم يهبط ثانية من السماء. نخلص من هذا الكلام إلي أن الفراغ العقلي الذي يعيش فيه الشباب كان لا بد من ملئه, وبما أننا قد عرفنا أن الأسرة والمجتمع لأسباب كثيرة تخليا عن مهمتهما الأساسية وهي خلق العقل الناقد وبناء منظومة أخلاقية حقيقية, فتكفل بهذا الجماعات المسيسة التي ترفع شعارات دينية وتريد الدنيا قبل الآخرة, وكان هذا الشباب هو الصيد السمين لهذه الجماعات, وهؤلاء الشباب أصبحوا درجات عند هذه الجماعات, فهناك درجة الشباب الذين يعتقدون فيما تقوله هذه الجماعات وآمنوا به, ودرجة أخري للشباب الذين اعتقدوا وآمنوا وجندوا ليجندوا آخرين, ثم هناك الدرجة الأخيرة وهي للشباب الذين اعتقدوا وآمنوا واتخذوا من أرواحهم فداء تحت رايات كثيرة أولاها الجهاد في سبيل الله والاستشهاد في سبيل الجماعة, وهؤلاء درجات كثيرة وتحت أسماء عدة مثل الجماعات الجهادية السلفية, وجماعات جيش محمد, وجماعات نصرة الشريعة.. إلخ ولن نستطيع للأسف الشديد أن نتعامل مع كل هذه الجماعات إلا بسبيلين أولهما العمل علي نشر الوعي الحقيقي بالدين وأهمية الدين في تماسك المجتمع وليس في قسمة المجتمع, وأن الخلاف الديني لا يستوجب إطلاقا دعوات الكراهية والإرهاب, يعني لا بد من التعامل العقلي, والجزء الثاني هو التعامل الأمني, لكن لو هناك طريقة للتعامل العقلي معهم فيجب أن نبدأ بها أولا, فلا بد من رفع شعار( وجادلهم بالتي هي أحسن).