يبدو أن النخبة الحاكمة الجديدة/ القديمة لم يحدث لديها أى تغييرات فى طرائق تفكيرها، وأساليب عملها التى اعتادتها منذ تأسيس النظام التسلُّطى فى 23 يوليو 1952، وهو ما يتجلّى فى إدراكها الأداتى لمعنى القانون ومنظومة القيم السياسية والفلسفة التشريعية التى تشكّل المرجعية الحاكمة لعملية إنتاج التشريع. يبدو أن الاتجاه إلى إصدار قرار جمهورى بقانون يؤثم ازدراء ما يطلق عليه مجازًا «ثورتَى» 25 يناير 2011، و30 يونيو، هو مثال على هذا النمط فى الإدراك الأداتى والقمعى للقانون ووظائفه الردعية العامة والخاصة والمنعية التى ستحول فى نظر واضعيه دون ما يُسمى بالازدراء شفاهة وكتابة وتمثيلًا ورسمًا، أو على مستوى الأفلام السينمائية، أو من خلال استخدام أى أداة من أدوات التعبير، أو الفكر الحامل لها. هذا الفكر الأداتى العقيم هو أحد الأسباب البنيوية الكامنة وراء أزمة دولة القانون، وتآكل وظائفه فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثَمَّ لم يعد كثُر يلتزمون بأوامره ونواهيه فى عديد من العلاقات القانونية، وذلك لأن الحاكم الجمهورى منذ تأسيس الجمهورية التسلطية، اعتمد على آليات تزوير الاستفتاءات عمومًا والدستورية على وجه الخصوص، حيث تم وضع دساتير تؤسّس للاستبداد السياسى، من خلال الصلاحيات الدستورية الواسعة النطاق لمن يشغل منصب رئيس الجمهورية، والتى جعلت مَن يشغله هو مركز النظام السياسى كله، بل ووصلت الأمور إلى تشبيه بعضهم لنفسه وموقعه بأنه آخر فراعنة مصر! ولم يخجل من هذا التشبيه لذاته، ولموقعه الدستورى، ومجافاة هذا التشبيه لمعنى ومنطق وبنية الدولة القومية. كان ذلك تعبيرًا عن إدراك سياسى ملتبس ومضطرب ويخلط حينًا بين منطق كبير العائلة البطريركى ما قبل الدولة الحديثة، وبين إدراكه لذاته على أنه فرعون. نمط من الفرعونية السياسية -إذا شئنا استعارة جمال حمدان- كرّسه الرئيس الأسبق أنور السادات، ثم جاء مبارك إلى سُدّة الحكم بعد اغتيال سلفه، ولم يرعوى، واستمر هذا الإدراك الشمولى والتسلطى للقانون على أنه أداة ورهينة مشيئة رئيس الجمهورية، من هنا كان القانون ولا يزال يوظّف لخدمة مصالح وانحيازات رئيس الجمهورية والسلطة الحاكمة، ومن ثَمَّ كان إحدى أدوات حماية هذه المنظومة من المصالح التى شابها الفساد السلطوى، وشبكات المصالح التى ربطت بين مجموعات من رجال السلطة والمال والأعمال، وتحوَّلت التشريعات إلى تقنين لرأسمالية المحاسيب واقتصاد الأنجال والأحفاد، وتمدّد الفساد من القمة إلى ثنايا وسط وقاعدة الهرم الاجتماعى. كانت تشريعات السلطنة الجمهورية تفتقر إلى التوازنات بين المصالح الاجتماعية المتصارعة والمتنافسة بين فئات اجتماعية وجماعات مهنية وفئوية فى المجتمع والدولة. وإنما كان الهدف الرئيس هو دعم مصالح شرائح محدودة داخل الدولة وعند قمة السلطة وحواشيها، ومعهم رجال المال والأعمال -الذين خرجوا من أعطاف النظام فى بعض مراحل تطوره تاريخيًّا- وانتشر الفساد الهيكلى، وضرب كل أركان البيروقراطية، ووسط الغالبية إلا مَن رحم ربى، سبحانه وتعالى، واعتصم بضوابط القانون والعاصم الأخلاقى والدينى. إدراك القانون على أنه أداة للردع والقمع والداعم الأساسى للتسلطية السياسية والدينية، هو الذى جعل القانون عمومًا يُعد تاريخيًّا -وطيلة أربعين عامًا مضت- ويمرر ويصدر دونما دراسة لأبعاده الاجتماعية، ومن ثَمَّ غابت عن القانون فلسفته، وتدهورت مستويات المهنة القانونية، والفن والصياغة الفنية، التى كانت سابقًا تتسم بالعمق فى المعالجة والانضباط فى الصياغة والمعنى والدلالة، وتمدّد الغموض والارتباك اللغوى، وتضخّمت الآلة القانونية وتوسعت وشاعت التناقضات داخل منظوماته الأساسية والفرعية. تمدَّدت الفجوات بين النظم القانونية، وبين الواقع الموضوعى فى الدولة وعلاقاتها ب المواطنين ، والأخطر بين واقع مترع بالمشكلات، وعسر الحياة على نحو أدَّى إلى بروز ازدواجية بين قانون الدولة وقانون الواقع الذى ساده قانون القوة والمكانة والفساد، على نحو أدَّى إلى لا مبالاة المخاطبين بأحكام القانون وأوامره ونواهيه. ارتكز الإدراك السلطوى للقانون على أن حماية النظام التسلطى لا بد أن تركز على وضع القيود على حريات الفكر والتعبير، من خلال قوانين انطوت على العمومية المفرطة والغموض، وتغليظ العقاب. إن الإفراط فى هذه القيود الباهظة على حريات الرأى والتعبير أدَّى إلى المزيد من تراجع مستويات الفكر والإبداع المصرى المعاصر، على نحو أثَّر سلبًا على القوة الناعمة المصرية، وأدَّى إلى تدهور مستويات الإنتاج الفكرى والثقافى فى عديد من المجالات، ومستوى تكوين المثقف والباحث والمبدع المصرى، إزاء بعض نظائرهم فى المنطقة. استمر هذا الاتجاه مع تزايد القيود الدينية التكفيرية وهيمنة الغلو والتزمت فى الخطاب الدينى السياسى، والفقهى، والإفتائى من خلال محاولة فرض الهيمنة الرمزية على المجال العام الثقافى والسياسى، على نحو أدَّى إلى تكاثر دعاوى الحسبة، والازدراء للأديان والرموز أمام المحاكم عن طريق الادعاء المباشر، وهو ما أثَّر على بيئة الإبداع، ومن ثَمَّ على دور مصر الإقليمى الأبرز، وهو الإنتاج الثقافى على اختلافه. من هنا تشكّل الدعوة إلى تجريم ما يسمى بازدراء ثورتَى 25 يناير، و30 يونيو، استمرارًا لعقلية تسلطية قديمة عفى عليها الزمن، فى ظل ثورة المعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة، وستؤدّى إلى تآكل فى نظام الشرعية السياسية والدستورية، من خلال إنتاج فجوات أوسع بين الجماعات الثقافية، والأكاديمية والمبدعين والطلائع الجيلية الشابة وبين النظام، ويفرض قيودًا على البحث العلمى، والإنتاج الإبداعى لما تم فى 25 يناير، و30 يونيو على عديد من المستويات، وطبيعة التحالفات السياسية، والعلاقات مع الخارج والإقليم، وطبيعة ما حدث فى أروقة الدولة وأجهزتها، وفى داخل المجموعات السياسية... إلخ، أى سيقمع هذا المشروع حريات البحث الأكاديمى السياسى والقانونى والتاريخى. إن فكرة إصدار هذا القانون تتسم بالتسرع والعجلة وعدم الدراسة، وغياب العقل والخيال السياسى، لأنها ستفتح الأبواب أمام سيل من الدعاوى القضائية التى ستنهال على المحاكم، ومن ثَمَّ ستزيد الجروح بين السلطة الحاكمة وبين المثقفين والمبدعين ورجال الفكر والسياسة فى بلادنا، بكل انعكاسات ذلك على التطلع لاستكمال مسار التطور الديمقراطى، وتعزيز الحريات العامة والشخصية، ومن ثَمَّ التحرُّك نحو استكمال المشروع الوطنى الديمقراطى المصرى لاستكمال مشروع الحداثة والتحديث فى عالم معولم، من خلال مشروع للتنمية والأمن والاستقرار والجرى السريع وراء تطورات عالم معولم من الفرص النادرة والمخاطر المتعددة.