هناك أعمال فنية تصرخ وأخرى تهمس، ولا يمكن أن تضع قاعدة أو كتالوجا محددا ملزما للجميع وصالحا للاستخدام فى كل الأحوال، ولكن تظل الفكرة هى التى تصنع قانونها وتحدد إطارها، القضية الدرامية مهما ازداد الصخب الذى تثيره حولها ترنو إلى قدر ما من الهدوء فى التناول. فى مسابقة الفيلم الطويل يعرض الفيلم اليمنى أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة ، وهو كما ترى عنوان طويل وكأنه الموضوع كله بتفاصيله وليس فقط العنوان، وتقرأ على الفيلم توقيع المخرجة اليمنية خديجة السلامى، وهى واحدة من الوجوه اليمنية التى صارت عنوانا للسينما فى اليمن، بينما فى قسم ليالى عربية يُعرض فيلم دلافين للمخرج الإماراتى وليد الشحى، الذى نرى فيه وجها آخر أكثر حميمية للمواطن الخليجى والإماراتى تحديدا، بعيدا عن تلك الصورة النمطية. دعونا نبدأ ب الدلافين ، وهو عنوان مُوحٍ لا يقول كل شىء لكنه يفتح أمامك كل الأبواب، ولا يقتصر فى إطلالته على البحر كما يوحى العنوان، ولكنه ينتقل إلى البر، يحكى عن الحياة والموت، إنه الحلم المجهض بقدر ما هو أيضا الحلم المكبوت، ترى فى الفيلم بيوتا فقيرة وبحرا شاسعا وأرضا غير ممهدة، وأناسا يحيون وبجوارهم نعش ميت، وعربة إسعاف تحتاج إلى إسعاف، غير مؤهلة لعبور الصحراء. تفاصيل لم نألفها من قبل فى فيلم خليجى، واقع اجتماعى ومعاناة نادرا ما تقترب منها الكاميرا سواء الخليجية أو العربية أو العالمية فى تقديمها للإنسان الخليجى، هذه المرة نرى الحياة فى البحر الممتد أمامنا ونرى الحياة أيضا حتى فى نعش الموت، تمتزج رؤية المخرج وليد الشحى مع كاتب السيناريو أحمد سالمين فى الغوص فى التركيبة الإنسانية، وهو ما تراه كملمح رئيسى فى عديد من الأفلام الإيرانية، خصوصا سينما عباس كيروستامى الذى كثيرا ما يبحث عما وراء الحدث ويتأمله، وبالطبع تلك الرؤية المتأملة ليست حكرا على أحد ولا هى قاصرة على بلد ما، ولكن يظل أن المخرج من حقه أن يلجأ إلى الأسلوب الأقرب لتوصيل الرسالة. الدلفين هو صديق الإنسان الذى ينقذه من الغرق، هو أحد الحكايات التراثية الشائعة فى العالم كله، وهكذا نشاهد مسارات الفيلم بعمقها وهو ينتقل من البحر إلى عربة الإسعاف، ونرى كيف أن الإنسان يتعامل مع الموت الذى يبدو قريبا منه وكأنه وجه آخر للحياة التى يعيشها، وضع المخرج أمامه إطارين للزمن لا يتجاوز 24 ساعة، والمكان بنسبة كبيرة يقع فى إطار البحر وعربة الإسعاف. أحد الخطوط الرئيسة فى قراءة العمل الفنى أن تبحث عما وراء السطح الهادئ وأن تشتبك مع الواقع الاجتماعى، وهذا هو ما نجح فى أن يَعبُر إليه ويُعبّر عنه وليد الشحى، ولكن يبقى فى المعادلة أن أداء عدد من الممثلين افتقد التلقائية، كما أن تنفيذ اللقطات والمونتاج كان بحاجة إلى جهد أكبر، إلا أن ما يحسب للفيلم أنه يشكل إطلالة على الشاطئ الآخر للسينما الإماراتية. ونأتى إلى اليمن مع مخرجة كثيرا ما أبدعت فى السينما التسجيلية، وفيلمها قبل الأخير الصرخة عن ثورات الربيع فى اليمن الذى عرض قبل عامين أيضا فى دبى كان لافتا، وهى تُقدم دائما اليمن فى أفلامها رغم أنها تعلمت وتزوجت وحظيت بجوائز متعددة خارج الحدود، ولكنها يمنية الإحساس والمشاعر والذوق. يبدو أن خديجة كما يشير التعريف بها قد عاشت نفس المأساة، فلقد أجبروها على الزواج وهى فى الحادية عشرة بينما بطلة الفيلم تزوجت فى العاشرة. فى الحالتين تم الطلاق بضغط من رجال الدين ومن كبار رجال القرية، ولكن من الواضح أن خديجة لم تنسَ معاناتها، وهى فى الحقيقة لا تقدم حكايتها مباشرة ولكن الشريط السينمائى يروى جانبا منها أو ما تبقى فى مشاعرها وذاكرتها وهى لا تزال طفلة، وكيف أن هناك من يريدون اغتيال الطفولة والبراءة بغطاء كاذب من الشريعة الإسلامية. من الواضح أنها لم ترد مناقشة الشريعة وهل من الممكن أن يقر الإسلام -ولا أى دين- بهذا العبث، ولهذا وكما أن الغطاء الدينى كان هو المبرر للزواج فإن الطلاق تم أيضا تحت غطاء الدين، وذلك فى ما يبدو حتى لا تصطدم بفكر دينى عقيم يضعها فى مواجهة مع رجال الدين هناك. المخرجة تمزج فى نسيج الفيلم بين الروائى والتسجيلى، ولهذا كثيرا ما تلجأ إلى الإحصاء الرقمى، كنت أتصور حتى شاهدت الفيلم أن مصر بحكم الكثافة السكانية تفوقت فى نسبة الزواج بالقاصرات، ولكن خديجة أكدت أن اليمن هى الأولى فى العالم، وكأنها سنة يمنية. فى مثل هذه الأفلام مهما كانت أهمية القضية يبقى الأهم هو التناول، ومن الواضح أن خديجة لم تستطع ضبط الجرعة، كان الصوت صارخا من خلال تقديم معاناة البنت وليلة الدخلة، الكل كان يصرخ، رجل الدين يصرخ، ورجل القانون يصرخ، والمجتمع يصرخ، والقضية تؤرقنا وتمسنا جميعا، وكم كنت أتوق إلى الهمس الفنى.