عاش عبد الله بن سبأ قرونا طويلة داخل العقل العربى كمشعل للفتنة الكبرى، ولم يهتم أحد بالتأكد من وجود شخص واقعى بهذا الاسم، هكذا يمكن للوهم أن يقدم تبريرا مريحا للبسطاء ضمن «نظرية المؤامرة»، التى تلقى بأسباب كل أزمة على عوامل خارجية، وعندما تصدى طه حسين فى الأربعينيات لتحقيق وجود هذه الشخصية تاريخيا، رأى الأعمى ما لم يره المبصرون، فعندما سعى لمناقشة الخلاف حول الأصل اليهودى لابن سبأ، وجد أن معظم المؤرخين يتفقون على أنه «يهودى»، وحصروا الخلاف فى حدود: هل هو من يهود اليمن أم العراق؟ وحاول الملفقون تبرير هذه الخلافات بأنها نتيجة طبيعية لتنقلات القبائل، فقد يكون أصله من اليمن، ثم انتقل مع «والده» إلى العراق. لكن طه حسين تساءل ببراءة مفحمة: ولكن من هو والده؟! لم نعثر على إجابة، لأن كل الروايات التاريخية وكتب التراجم لم تذكر كالعادة شيئا عن سيرة الرجل الغامض على طريقة فلان بن فلان بن علان. لكن وجدنا تبريرات من نوع إنه ربما بعد أن أسلم خجل من ذكر اسم والده اليهودى ، أما أمه فكانت حبشية سوداء، لذلك سمى ب ابن السوداء ، وربما كانت قصة تسميته وغياب نسبه سببا أساسيا جعل الدكتور طه حسين ينسف وجود شخصية ابن سبأ تماما فى التاريخ الإسلامى، وذلك فى كتابه المثير للجدل الفتنة الكبرى ، وتأثر العميد فى ذلك بالأبحاث التاريخية لأساتذته من المستشرقين، مثل فلهاوزن وكايتانى، التى ذهبت إلى أن هذه الشخصية وهمية ومختلقة، وأن ابن السوداء هو فى الواقع الصحابى عمار بن ياسر (الذى كان بعض المتأثرين بالجاهلية ينادونه بهذا اللقب فى إطار معايرته بسواد أمه سمية)، وأكدت هذه الدراسات تطابق بعض المواقف بين ابن سبأ، وابن ياسر، خصوصا مواقفه من طلحة والزبير وعائشة، وقبلها من عثمان، واستند طه حسين فى رأيه إلى أن المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة ابن سبأ، ولم يذكروا عنها شيئا، كما أن المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر ، ووصفه بأنه كاذب ووضاع (أى يضع الروايات من عنده)، وأضاف العميد أن الأمور التى أسندت إلى ابن سبأ تستلزم معجزات خارقة، لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها حتى لو كان المسلمون حينذاك فى منتهى البلاهة والسخف. فى المقابل هاجم المحقق الإسلامى البارز محمود شاكر استنتاجات طه حسين، وقال إنه يسعى لتبرير الدور اليهودى فى التآمر ضد الإسلام، ويريد تشويه كل ما هو عربى، فهو يردد ويؤكد أن الفتنة عربية ، وأنها نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء، وينكر أمر ابن سبأ ودوره فى تنظيم الجماعات الخفية، التى تتستر بالكيد، ثم يقر بأدوار مثل هذه، فى مواضع أخرى من كتابه، ويدافع شاكر عن سيف بن عمر ، مؤكدا أنه من كبار المؤرخين وشيخ شيوخ الطبرى، والبلاذرى، كما أنه مات فى زمن الرشيد، قبل سنة 190ه، فلا يقال عنه ولا عن الطبرى إنهما من الرواة المتأخرين كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه. هكذا احتدم الخلاف حول شخصية عبد الله بن سبأ، منذ أن نفى طه حسين وجودها فى التاريخ الإسلامى، وسار كثيرون على نهجه، فى مقابل كثيرين ثاروا ضده، مؤكدين وجود ابن سبأ، ومنهم العلامة محمود شاكر، الذى حشد الأدلة ليثبت تورط اليهود المستمر فى التآمر على الإسلام منذ أيام الرسول، صلى الله عليه وسلم، واستشهد بحروب الأوس والخزرج الطويلة والمريرة، ثم اجتماعهما على الكيد للرسول، صلى الله عليه وسلم، وتساءل شاكر: أيجوز فى العقول أن تظل اليهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله، وللمؤمنين والمؤمنات، عشر سنوات كاملة متتابعة يوما بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى فى سنة 11ه، نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من حدث كان بعد ذلك فى تاريخ الإسلام، فنبرئهم من الردة، ومقتل عمر، ثم مقتل عثمان، وما تلاه من فتن؟ ... والخلافات مستمرة.