خرجت الثورة بمكاسب بلا حصر من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. غادرت مرحلة الهلامية إلى مرحلة الفرز والتحديد، تركت محطة القيادات النخبوية العلوية شبه الوظيفية، وانطلقت إلى حيث القيادات السياسية الشعبية الحقيقية، ليس فى شخص قائديها المستحدثين الرئيسيين حمدين وأبو الفتوح فقط، بل ومئات غيرهما من مفكرى وقياديى حملتيهما الانتخابيتين. وعن نفسى لم أكن من أنصار محاولات الجمع بينهما ليكون أحدهما رئيسا والآخر نائبا. اعتبرتها محاولات نخبوية لا تنتمى إلى الثقافة الديمقراطية الصحيحة. فى جميع البلدان الديمقراطية تقدم جميع الفرق والأحزاب مرشحيها فى جولات الانتخابات الأولى، بذلك تعرف أوزانها النسبية الحقيقية عند الجماهير، قبل أن تتحالف فرق وأحزاب كل تيار سياسى خلف مرشح تيارها، أو خلف المرشح الأقرب لأفكارها فى مرحلة الإعادة. وقد حققت قوى الثورة هذا المكسب فى المرحلة الأولى، ودخلت مرحلة الفرز والتبلور الحقيقى على أرض الواقع السياسى وليس فى الغرف المغلقة.. وفى ظنى أن هذا المكسب الهائل يكفى فى هذه المرحلة. لدىّ أسباب عديدة لا مجال لعرضها الآن تجعلنى أوقن أن وصول رئيس ثورى إلى مقعد الرئاسة فى الظروف الحالية ربما كان خطرا على مستقبل الثورة. كسبت الثورة أيضا لها ولحلفائها من الإسلاميين نحو 85% من أصوات الناخبين. لم يخرج عن الثورة إلا الناخبون غير المسيحيين، الذين صوتوا للفريق أحمد شفيق، والذين يمكن حساب أكثرهم على فلول الحزب الوطنى، وحساب باقيهم على ذلك الفريق من الشعب الذى تأثر سلبا بالأحداث التى أعقبت الثورة، وما خلفته من إحساس بغياب الأمن وتدهور الاقتصاد. أما المسيحيون الذن صوتوا للفريق شفيق، فعلينا أن نقدر حجم ما تعرضوا له من ضغوط لا قِبل لأكثرهم بها. وليس أدناها الخوف من الإسلاميين وهو خوف يتفق مع طبائع الأمور. وقد أسهم فى زيادة حدته الخطاب المتطرف للنخبة الليبرالية بأكثر مما أسهمت أجهزة النظام المخلوع التى ما زالت صاحبة السلطة الفعلية الحقيقية فى البلاد. لقد اختبرت الثورة حجم قواها المتحركة فى صورة الأصوات التى توجهت فى عمومها إلى حمدين، ومرشحى اليسار الثلاثة، وجزئيا لصالح أبو الفتوح. ولا ننسى أنه يمكن النظر إلى أصوات أبو الفتوح من ناحية دلالتها الكبيرة على ما أحدثته الثورة من تغيير كبير يوشك أن يُخرِج جماعة الإخوان من موقع الممثل السياسى الأساسى للحركات الإسلامية، ويظهر الكثير من الجماعات السلفية المؤيدة لأبو الفتوح باعتبارها الأكثر ديناميكية واجتهادا. لقد كان حجم الأصوات المتأثرة بالزخم الثورى كبيرا بالمقارنة بحجم أصوات الذين أصروا على التمترس فى خنادقهم القديمة من الإسلاميين أنصار محمد مرسى والفلول أنصار أحمد شفيق. أما باقى الأصوات فلعلهم أولئك الذين حرّكتهم الثورة من مواقع الجمود القديم، ولكنها لم تفلح فى إدماجهم داخل صفوف الحركة الثورية فبقوا على خط التَّماس بين الجمود والحركة، باحثين عن مرفأ آمن من خبرة رجل دولة كعمرو موسى كما فعل أغلبهم، أو فى مرشح مثف فقيه فيلسوف مثل سليم العوا كما فعل أقلهم. فهذه أصوات من معسكر الثورة لا من معسكر الفلول، كما تحاول وصمها أبواق النظام المخلوع. فى داخل صفوف الحركة الثورية كان الفوز للقوى الأكثر حركة وديناميكية وحيرة التى صوّتت لحمدين، مقابل القوى الأقل حركة وحيرة التى صوتت لأبو الفتوح، وهو عين ما حدث داخل الجيب اليسارى الذى ما زال يحاول التشبث بالبقاء داخل الساحة السياسية للثورة. لقد قاربت الأصوات المحدودة التى حصل عليها المرشح الأكثر جدة خالد على ضعف أصوات المرشحين التقليديين الحريرى وبسطويسى.. بل إنه داخل اليسار التقليدى نفسه فقد تفوق الحريرى مرشح الجزء اليسارى الأكثر حداثة على مرشح حزب التجمع الذى لم يفلح فى تحقيق أى استفادة من تاريخ مرشحه المشرف داخل تيار استقلال القضاء. فوق ما تقدم يمكن القول بأن الأحزاب الثلاثة الموروثة من عهد مبارك، والتى طالما اتهمتها القوى الثورية بالتواطؤ مع النظام المخلوع، وهى أحزاب الوفد والعربى الناصرى والتجمع، قد خرجت نهائيا من سياق الفعل السياسى المؤثر، فى ما عدا فرصة شديدة المحدودية ما زالت متاحة لحزب الوفد لو أحسن استغلالها. ولعلنا لم ننسَ أن هذه هى الأحزاب التى درجت أبواق النظام المخلوع -قبل الثورة- على وصفها ب «الأحزاب الكبيرة»! لقد كان السيد عمرو موسى أكبر الخاسرين من معركة الرئاسة، وربما كان المرشح الوحيد الذى خسر فرصة محققة لإدراك الموقع الجليل. لقد أثبتت النتائج أنه ربما خرج من الانتخابات بنفس الحجم من الشعبية العامة الكبيرة التى دخل بها بلا زيادة أو نقصان. واعتقادى أن ذلك يرجع إلى محدودية قدرته على العمل الجماهيرى الخلّاق، ثم لأنه استُغرق فى الرحلات الانتخابية مهملا المطابخ القاهرية المؤثرة، كما افتقرت حملته إلى أى طابع سياسى خلّاق، وظهرت فى شكل وظيفى بيروقراطى بحت، خالٍ من السياسيين الحقيقيين ومن الخبراء المتخصصين فى آن واحد، عاجز عن بلورة رؤية سياسية حقيقية للرجل ودوره إذا فاز، وعن تكوين صورة إعلامية له تعلق بأذهان الناخبين، وعن تخليق فرص للعمل الإبداعى لكثيرين رأوه الأنسب لهذه المرحلة. ومن يدرى؟ فلعل الطبيعة الوظيفية لقيادات الحملة قد صورت لهم أنهم المساعدون القادمون للرئيس المؤكد نجاحه، فعقدوا العزم على إبعاد من قد ينافسهم مستقبلا على مواقع السلطة ومغانم السلطان. وكانت المناظرة الشهيرة عاملا مساعدا لا سببا رئيسيا فى زيادة متاعبه ولم تكن السبب الرئيسى فى خسارته كما يشاع. المهم أن الثورة توشك أن تتبلور وتفرز قواها، وأن تخرج من أحشائها الطبعات الثلاث الجديدة للتيارات السياسية المصرية الرئيسية: العروبى بقيادة حمدين، والإسلامى بقيادة أبو الفتوح، والليبرالى بقيادة البرادعى. بينما تتبدى من بعيد ملامح تيار يسارى جديد يتقدمه خالد على. وتلك مكاسب يجب أن نعض عليها بالنواجذ. لكن ذلك كله يستحق حديثا آخر.