عزيزى القارئ، هل تتذكر تليفزيون أنس الفقى فى أثناء ثورة 25 يناير؟! إن لم تكن تتذكره فلا تحزن، فبإمكانك الآن أن تشاهد نسخة شبيهة من تليفزيون أنس الفقى على الترددات ذاتها وبالوجوه والسياسات نفسها. لقد تعامل تليفزيون أنس الفقى مع مشاهد الاحتجاج والتظاهر فى ميادين مصر -خصوصا ميدان التحرير- وفق سياسة تغيرت على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى كانت تطبيقًا لسياسة «ما لا يُرى (فى وسائل الإعلام) لا يوجد (فى الواقع)». لقد كان من نتائج التأثير الهائل لوسائل الإعلام فى المجتمعات المعاصرة، أن أصبحت تتحكم فى صياغة أولويات المجتمع، وتحدد الموضوعات المطروحة للنقاش العام. وقد توصل المهيمنون على وسائل الإعلام (سواء أكانوا رجال أعمال أم حكومات أم جماعات مصالح) إلى أن وسائل الإعلام تستطيع السيطرة بشكل كامل على ما يتكلم الناس عنه. وتمت صياغة القانون الذى يُحكِم هذه السيطرة فى عبارة موجزة هى «ما لا يُرى.. لا يُوجَد». ولتطبيق هذه السياسة تجاهل التليفزيون المصرى فى الأيام الأولى من الثورة نقل وقائع الاحتجاج أو التظاهر أو الاعتصام، ومَنَع الحديث عنها. وفى الوقت الذى كانت مصر بأكملها تتقلب على صفيح الثورة الساخن كان التليفزيون يبثّ مسلسلات رومانسية ومسرحيات كوميدية، وكأن لا شىء يحدث مطلقًا. أملا فى أن اختفاء مشاهد الاحتجاج من التليفزيون سوف يؤدى إلى اختفائها من الوجود. وحين بدا واضحًا أن هذا لن يكون، وفشلت هذه السياسة، بسبب انصراف الجمهور إلى القنوات العربية والخاصة، بدأ التليفزيون استخدام سياسة جديدة هى سياسة «إزاحة الميدان». بالتأكيد تتذكر -عزيزى القارئ- ذلك المشهد السريالى الذى لجأ إليه التليفزيون المصرى فى نقله الفريد لوقائع الثورة، حين كان التليفزيون ينقل وقائع البث الحى لجريان ماء النيل من أمام ماسبيرو، فى أثناء الحديث عن ميدان التحرير الذى كان يكتظ فى هذه الأثناء بمئات الآلاف من الثوار، وفى حين كانت كاميرات تليفزيونات العالم تنقل بثًّا حيًّا لوقائع التظاهر فى الميدان، كان التليفزيون المصرى مشغولا بتتبع حركة «الموجة التى تجرى ورا الموجة عايزة تطولها، تضمها وتشتكى حالها»، مع الاعتذار لأم كلثوم. ويبدو أن هذا المشهد الساخن لأمواج النيل المتتابعة بين ضفتى النهر، كان أهم بكثير من مشهد ميدان التحرير المحتشد بالمتظاهرين الذى تجاهله تليفزيون أنس الفقى. أملا فى أن يُغطِّى مشهد الكورنيش الخالى والنهر المتدفق على مشهد لهب الهتافات المشتعل فى الميدان. وللمرة الثانية فشلت سياسة «الإزاحة»، ولجأ تليفزيون الفقى إلى سياسة جديدة هى «ما لا تستطيع تجاهله.. يمكنك تشويهه». لقد اضطر التليفزيون بعد أن فرض الميدان نفسه على شاشات العالم إلى البث من الميدان، لكنه كان يبث صورًا للميدان وهو شبه فارغ من المتظاهرين، وكان عادة يلتقط صورًا للميدان فى الصباح الباكر، ثم يواصل بثها على شاشاته، ويكتب فوق الشاشة أو تحتها «ميدان التحرير منذ قليل» أو «ميدان التحرير صورة أرشيفية»، أو «ميدان التحرير منذ لحظات». وتظل صور الميدان الفارغ مسيطرة على الشاشات حتى يظن المشاهدون أن الميدان قد خلا من الثوار وأنه آن الأوان لعودة الحياة إلى طبيعتها. لكن نظرة سريعة على أى قناة أخرى كانت تقلل الثقة بشاشات التليفزيون المصرى وتهوِى بمصداقيته إلى الحضيض. لقد استعاد التليفزيون سياسات أنس الفقى فى تعامله فى الأيام الأخيرة مع أحداث ميدان التحرير، فحين كان السيد حمدين صباحى والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والسيد خالد على يلقون بيانهم المشترك مساء الإثنين الماضى بميدان التحرير، وسط عشرات الألوف من الثوار، كان التليفزيون المصرى بقنواته جميعًا -بما فيها قناة النيل للأخبار- يتبنى سياسة «ما لا يُرى لا يُوجَد»، فلم تنقل أىٌّ من قنواته أى مشهد للحدث، حتى شريط الأخبار الذى يوجد أسفل الشاشات، لم يتضمن أى إشارة إلى ما يحدث فى الميدان. فى الوقت الذى كان فيه معظم القنوات الخاصة المصرية والعربية ينقل هذه الأحداث مباشرة من قلب ميدان التحرير. ولم يختلف الأمر كثيرًا فى اليوم التالى، التى كان المصريون فيه على موعد مع «مليونية العدالة»، ففى مساء اليوم تجاهل معظم قنوات التليفزيون المصرى النقل المباشر للحدث، فى حين لجأت قناة «النيل للأخبار» معظم الوقت إلى عرض صورة مشطورة للميدان، دون صوت، مع استمرار البرامج العادية، وعدم تغطية الحدث بشكل مباشر. لقد خسر التليفزيون المصرى كثيرًا من مصداقيته بسبب هذه السياسات غير المهنية. وقد أثبتت تجربة ثورة يناير أن فقدان المصداقية هو أخطر ما يُمكن أن يُبتلى به منبر إعلامى. ففقدان المصداقية لا يعنى فحسب فقدان الجمهور بل يعنى أيضًا فقدان رأس المال الرمزى لهذا المنبر، بما يجعله عديم الفاعلية والتأثير.