فى 6 ديسمبر 1956، كتب الشاعر الشاب صلاح عبد الصبور فى باب «عصير الكتب» بمجلة «صباح الخير»، مقالًا عنوانه «سنية وزبيدة بين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ»، وفى المقال يقارن عبد الصبور بين روايتَى (عودة الروح) للحكيم، وثلاثية (بين القصرين) لمحفوظ، ويعقد مقارنة بين الأسرتين اللتين انشغل بهما الكاتبان فى الروايتين، والأسرتان كما هو معلوم شاركتا بأشكال عديدة فى ثورة 1919، وكان الفتى محسن هو بطل (عودة الروح)، وقد أحبّ جارته (سنية)، وعندما اندلعت شرارة الثورة، خرج محسن وخرجت سنية للمشاركة بكل طاقتهما فيها، وكذلك كان أحمد عبد الجواد الذى أنجب كمال وياسين وفهمى، رجلًا ورعًا أشد الورع، وكذلك كان فاسقًا أشد الفسق، ووطنيًّا إلى حد بعيد، فقد كان يصلِّى الجمعة فى مسجد سيدنا الحسين، ويتضرّع إلى الله حتى يكاد يبكى، وفى المساء كان يسهر عند خليلته العالمة زبيدة، ويمسك الدف فى يد، والكأس فى يد، ويغنى ويردد «عصفورى يامّه عصفورى». والمقارنة هنا تنشأ بين مشاركة الأسرتين فى أحداث الثورة، وبعد أن يقيم عبد الصبور قراءة سريعة للروايتين، يطرح فى نهاية المقال سؤالًا «أى الأسرتين أسهمت فى الثورة وأعطت، وفى أى الأسرتين تطالع وجه مصر الحى الشريف المخلص؟». وبغض النظر عن هذا السؤال، فقد كانت رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم تحظى بمكانة خاصة فى ضمير الناس، لأنها كانت أحد مكونات الزعيم جمال عبد الناصر، الذى انتصر لتوفيق الحكيم بدرجات بعيدة فى أكثر من مناسبة. فعندما شرعت الثورة فى تشكيل لجان التطهير لإقصاء مَن تراهم غير صالحين لوظائفهم لأسباب مختلفة، تضمنت الكشوف اسم توفيق الحكيم الذى كان رئيسًا لدار الكتب، وكان سبب إقصاء الحكيم، هو أنه شخص غير منتج، وهنا حذف عبد الناصر اسم الحكيم من الكشوف، واستبقاه فى وظيفته، على عكس ما حدث مع الشاعر الرومانسى إبراهيم ناجى، الذى استبعدته لجان التطهير من وزارة الصحة للسبب ذاته. ومن المعروف أن جمال عبد الناصر الذى مشى فى مظاهرات 1935، مطالبًا بعودة دستور 1923، كان متأثرًا بعدد من القراءات الفكرية والسياسية والأدبية، وكان قد شارك فى تمثيل دور «يوليوس قيصر» فى مسرح المدرسة، وكان على رأس القراءات التى شكلت وعى ووجدان جمال عبد الناصر رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم» الذى ظل يكنّ له التقدير البالغ، والحب الذى يستحقه أحد ملهميه العظام بالنهوض بالبلاد نحو الثورة، وعندما كتب جمال عبد الناصر كتاب «فلسفة الثورة»، أهداه لتوفيق الحكيم، قائلًا «إلى باعث الأدب الأستاذ توفيق الحكيم، مطالبًا بعودة الروح مرة أخرى بعد الثورة»، وكان الإهداء مؤرخًا -كما يورد لويس عوض- ب28 مايو 1954، وكلنا يعرف دلالة هذا التاريخ، الذى كانت مصر تمرّ فيه بأحداث جسام بعدما أطلق عليها بعد ذلك «أزمة مارس 1954». ولم يكن هذا الموقف هو الموقف الوحيد الذى يدلّ على احتضان جمال عبد الناصر لتوفيق الحكيم، لكن الحكيم كان قد تعرض إلى حملة صحفية ونقدية شديدة عام 1958، وكتب النقاد فى كل الدوريات مقالات مطولة لمهاجمته، ولكن جمال عبد الناصر ردّ على هذه الحملة الشديد، بمنح توفيق الحكيم قلادة الجمهورية فى 17 ديسمبر عام 1958، وهى ثانى أكبر وسام فى الدولة بعد قلادة النيل، وكانت تمنح هذه القلادة -آنذاك- للملوك ورؤساء الجمهوريات، ومن لهم صفة الملوك والرؤساء، وبعدها ظل توفيق الحكيم منعّمًا وصديقًا كبيرًا للدولة -إذا صحّ التعبير- ولا أريد أن أقول تابعًا أو مباركًا لكل خطواتها. وعندما مات جمال عبد الناصر رثاه الحكيم بمرثية مريرة، ولكن لم تمر سنوات قلائل على الرحيل، إلا وكان جمال عبد الناصر موضع هجوم شرس من كثير من الكتّاب والصحفيين، وانفتحت طاقة جهنم، وشاركت كل المدفعية الوفدية القديمة، وكذلك الفلول الإخوانية الجديدة والقديمة فى الهجوم الضارى، وكذلك الأكاذيب، لدرجة أن السيدة زينب الغزالى فى كتابها «المذكرات»، الصادر عن دار الشروق، زعمت بأن جمال عبد الناصر كان يشرف بنفسه على حفلات تعذيبها، وكان يذهب أحيانًا ليباشر هذا التعذيب بنفسه، وكذلك كتب جلال الدين الحمامصى وصالح جودت وفتحى عبد الفتاح وآخرون. وكانت المفاجأة أن توفيق الحكيم كان أحد الدوافع الكبرى فى الهجوم على جمال عبد الناصر، وكان كتابه «عودة الوعى» هو المانفيستو الذى تحركت على هداه ميليشيات الهجوم المتنوعة، وراحت كل القوى الرجعية تستعين بكتاب توفيق الحكيم للهجوم على عبد الناصر وإنجازاته، وربما يكون الحكيم صادقًا فى كثير مما ذهب إليه، ولكن السؤال الذى سأله كثيرون هو: لماذا صمت الحكيم كل هذا الزمن، ثم كتب هذا الكلام بعد رحيل عبد الناصر؟ بل كان السؤال الأكثر إلحاحًا هو: لماذا لم يصمت الحكيم فقط عن الشقوق التى صدّعت بنيات الثورة، ولكنه راح يمدح ويبارك كل خطوات الثورة على مدى العهد الذى حكم فيه جمال عبد الناصر؟ بغض النظر عن مسرحية «بنك القلق»، والتى زعم الحكيم أنها كانت ناقدة للنظام فى عزّ مجده. لم تكن هذه الأسئلة ترد فى مقالات صحفية عابرة لكتّاب عابرين، بل صيغت فى كتب كبيرة، وعلى رأس هذه الكتب كتاب «الوعى الزائف» للراحل محمد عودة، الذى تابع مسيرة علاقة الحكيم بالثورة وجمال عبد الناصر، واقتطف مقولات من كتابات توفيق الحكيم التى تثبت أن الحكيم كان يعلن ولاءه للنظام فى كل خطواته. كذلك وجَّه لطفى الخولى رئيس تحرير مجلة «الطليعة»، رسالة مفتوحة فى 16 نوفمبر 1974، لفتح حوار مع توفيق الحكيم حول هذه الآراء التى أوردها فى الكتاب، ورد عليه الحكيم برسالة فى اليوم التالى، وهكذا انفتح حوار لمدة تسعة أشهر شارك فيه خالد محيى الدين وأحمد عباس صالح ولطيفة الزيات ومحمد سيد أحمد وآخرون، وكانت الحوارات تنشر تباعًا فى مجلة «الطليعة» شهريًّا، وبعد ذلك نشرت فى كتاب كامل، صدر عن دار القضايا فى بيروت، وبلغت صفحات الكتاب خمسمئة صفحة. هذا ملخص لعلاقة توفيق الحكيم بجمال عبد الناصر، أو ملخص لشكل من قصة «المثقف والسلطة»، لعلها تكون قصة موحية وهادية لكثير من الكتّاب والمثقفين الذين يهرولون، ثم ينسون، ثم ينقلبون.