فى 17 سبتمبر 1959 كتب الدكتور مصطفى محمود مقالًا غاضبا جدا فى مجلة «صباح الخير»، تحت عنوان «شىء يغيظ»، وكان مصطفى محمود فى ذلك الوقت قد صار اسمه كبيرًا فى سماء الأدب والصحافة، وكان يزاحم نجوم القصة القصيرة، مثل يوسف إدريس على وجه الخصوص، إذ إن يوسف إدريس كان نجما حقيقيا فى ذلك الوقت، وكانت نجوميته قريبة من نجومية الممثلين فى السينما، بل ربما أكثر، لقربه من دوائر السياسة وصنّاع القرار، ووجود اسمه دائما على قوائم المسافرين لتمثيلنا فى الخارج، أو الذين تتم ترجمة أعمالهم إلى لغات أجنبية، وكان يتم فى إطار ذلك تجنيب واستبعاد آخرين عن كل هذه المزايا لحساب يوسف إدريس، وكانت نجومية إدريس نابعة من موهبته الكبيرة، التى استندت بقوة إلى جوار السلطة السياسية التى رعت تلك الموهبة العظيمة، وفى الوقت ذاته تركت مواهب أخرى شابة ووسيطة وعجوزة فى العراء وخارج دائرة الاهتمام، ما عدا أسماء بعينها لأسباب عديدة، مثل يوسف السباعى الذى يحظى بثقة القيادة السياسية وتربطه علاقات ذات شأن سياسى واجتماعى وإنسانى، وكانت مقالاته تقول بأنه قريب جدا من جمال عبد الناصر، كذلك توفيق الحكيم الذى انبهر به جمال عبد الناصر فى شبابه عندما قرأ روايته «عودة الروح»، ووضعه فى مكان خاص جدا فى وجدانه، ولذلك حماه من بطش إجراءات التطهير، وأوقف قرارًا بفصله من دار الكتب، فضلًا عن تدليله بأشكال أخرى متعددة، ووجوده دائما فى صدارة المشهد الثقافى والروائى والمسرحى، وما عدا السباعى وتوفيق الحكيم وبضعة أسماء قليلة نلاحظ أن الآخرين لا مكان لهم يقترب من مكان ومكانة مَن حظوا برضا السلطة ورعايتها، والمدهش أن هؤلاء الذين دللتهم الدولة لأسباب مختلفة، يقوم بعضهم بتدليل بعض، فنجد يوسف السباعى يفتتح صدر مجلته «الرسالة الجديدة» لتوفيق الحكيم ليقول ما يريد، ويهاجم مَن يريد، ويكتب مقدمة لكتابه «شجرة الحكم»، الصادر عن «الكتاب الذهبى» الذى كان يصدره «نادى القصة» فى يناير 1953، أى بعد قيام الثورة ببضعة أشهر، ويعترف السباعى بأنه مطالَب بالدفاع عن توفيق الحكيم إزاء التهم السياسية الموجَّهة إليه فيقول: «ورغم أننى لا أعرف عن توفيق الحكيم أكثر مما يعرف عن نفسه.. ورغم أنه لم ينصّبنى مدافعا عن نفسه ضد نفسه، فإنى أجد لزاما علىّ أن أتدخل فى الأمر لأدفع عنه التهمة التى رمى بها نفسه، وأن أسجل اعتراضى على طريقة استنتاجه للاتهام واستخلاصه للبيانات التى أقام عليها الدعوى»، وكان الحكيم قد حشر نفسه بين الحمقى الذين يُغضبون الحكام، ولذلك راح السباعى يدفع التهمة عن الحكيم، مقدما الحجة تلو الحجة، وبعد أن يقدم السباعى لنا توفيق الحكيم بطلًا يهتف فى نهاية مقدمته: «أيها الحكام رفقا بالحمقى من الكتاب عندما يثيرون سخطكم.. واذكروا أن الزمن كثيرا ما يبذل الآراء، وحمقى اليوم قد يكونون من أوفر الناس عقلا». وأنا هنا لا أثير هذا الكلام للتقليل بأى شكل من الأشكال من قيمة توفيق الحكيم، ولكن التكريس الدائم لشخص واحد أو مجموعة أشخاص وطرد الآخرين من دائرة أى اهتمام ورعاية، لا يخلق سوى الغضب العارم الذى طلع علينا به الدكتور مصطفى محمود الكاتب والصحفى والقاصّ الموهوب جدا والثائر آنذاك، والمغضوب عليه كذلك بعد كتابه المثير «الله والإنسان» الذى أثار سخط السلطة وسخط الرأسماليين، وأكرر أن هذا السخط لم يكن متعلقا بدين ولا إيمان ولا يحزنون، ولكنه أغضب حفنة الأثرياء ولصوص العصر الذين يستثمرون الدين لتمرير ثرواتهم الضخمة، لذلك لم يكن مصطفى محمود خفيف الظل على السلطة بجميع أشكالها الثقافية والسياسية وربما الاجتماعية كذلك، فهو يستند إلى موهبته الكبيرة فى الإبداع والكتابة والصحافة كذلك، لذلك كان مقاله الذى نوّهنا عنه غاضبا وحادا، وهو لا يعرف الكياسة عندما يخاطب أحدًا، ما دام هذا الأحد خارجا عن منظومة القيم التى يعرفها مصطفى محمود، والحقيقة كذلك أن تدليل توفيق الحكيم كان قد أغضب كثيرين، ولكن الكثيرين لا يملكون ما يملكه مصطفى محمود من شجاعة وإقدام لإغضاب أحد سدنة السلطة وخربشته بأظافر النقد. وفى ظل أن مسرحيات كثير من الكتّاب لا تجد طريقها إلى المسرح إلا بصعوبات شديدة، وأحيانا لا يتم إعدامها تماما، نجد أن توفيق الحكيم تُفتح له المسارح بجميع أنواعها لتقديم أعماله، لذلك عندما اختارت الدولة ثلاث مسرحيات للحكيم دفعة واحدة كتب مصطفى محمود مقاله الغاضب قائلًا: «والشىء الثانى الذى غاظنى.. هو العرض الذى قدمته الفرقة القومية لمسرحيات توفيق الحكيم القصيرة بعنوان (صندوق الدنيا) فى مسرح الأزبكية هذا الأسبوع.. فقد اختارت الفرقة ثلاث مسرحيات هايفة لتوفيق، وأظلمها إذا قلت عنها مسرحيات، فهى مجرد مقالات صحفية طريفة كتبها توفيق الحكيم للجرائد من سنوات، وهى تقوم على المفارقات الصحفية وسوء التفاهم والنكتة وليست فيها الحبكة ولا الموضوع.. والمسرحية الأولى هى استغماية بين زوجين كل واحد يحاول أن يحتمى بالآخر من المجنونة سميحة أيوب التى اقتحمت عليهما الشقة لتطلق عليهما الرصاص، والمؤلف يريد أن يفضح لنا الوفاء الذى لا وجود له بين الناس.. ففى الوقت الذى فيه يدّعى الزوج أنه يحب زوجته وأنه يتمنى أن يموت قبلها ينقلب الموقف أمام الموت والرصاص، فإذا به يدفع بها أمامه لتتلقى الرصاصة وينجو هو».. ويستطرد مصطفى محمود فى انتقاده للمسرحية دون هوادة، وكان توفيق الحكيم قد نال أمجادا لا تُعدّ ولا تحصى من جمال عبد الناصر شخصيا، إذ منحه قلادة الجمهورية عام 1958 عندما هاجمه البعض، وأرسله مندوبا عن مصر فى منظمة «اليونسكو» فى باريس فى عام 1959، وردا على ما كتبه مصطفى محمود حصل الحكيم على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1960، وغيرها من أمجاد، وهذا ما يحدث حتى الآن عندما تقتصر السلطة على تكريم ذويها وبشكل دائم، وعلى أمثال مصطفى محمود أن يخبطوا رؤوسهم فى أقرب حائط، ويسكبوا حروفهم فى أى صحيفة.