فى حوار عابر أجرته المحررة الشابة زينب الصيرفى مع الكاتب والأديب رفيع المقام يحيى حقى، فى باب «خمس دقائق»، ونشرته صحيفة «المساء» فى 23 نوفمبر 1959، أثار شجونًا كثيرة لدى كاتبنا الكبير، وتحدث فيه حول السينما والإذاعة والإعلام بشكل عام، وتطرق إلى عدم خروج روايته «قنديل أم هاشم» إلى السينما، وقال: إنها ستثير مشكلات كثيرة، وأشكالًا من اللبس عند القراء، وكان رده بالنص: «هذا عسير جدا، وستدخل فى معتقدات، خصوصًا منظر تحطيم القنديل، فهو عنيف ولا أريد أن يظهر بهذا العنف فى السينما»، هذا الكلام كان قبل أن يتم إعداد الرواية للسينما عام 1968، ويخرجها كمال عطية، ويقوم ببطولته شكرى سرحان وسميرة أحمد وماجدة الخطيب. وبعيدًا عن كل هذه الأسئلة التى خاضت فى مياه كثيرة، سألته المحررة عن رأيه الخاص فى تشجيع الأدباء الناشئين، كانت إجابة يحيى حقى بسيطة وعملية، وكانت هذه القضية مثارة بشكل واسع، وعقدت عنها جريدة «المساء» ندوة كبيرة، وتحدث فيها -آنذاك- جهابذة الحياة الأدبية، مثل الدكتور على الراعى والدكتور شكرى عياد ومصطفى عبد اللطيف السحرتى ومحمد سعيد العريان، ثم تم التعقيب على حديث هؤلاء كتّاب شباب مثل رجاء النقاش وصبرى موسى وعبد الله الطوخى وفؤاد دوارة، واقترحوا اقتراحات كثيرة بصدد هذه القضية العويصة، ورفض رجاء النقاش تعبير «الأدباء الناشئين»، وطالب بتغييره إلى تعبير «تشجيع المواهب الجديدة» وهكذا. وفى هذا الأمر قال يحيى حقى: «ليست هناك وسيلة سوى إيجاد ناشر يحصل على ثمن بسيط لبيع الكتاب، علاوة على إيجاد لجنة قراءة حتى لا يرفض كل كتاب من كاتب ناشئ، وهناك حل آخر هو أن يقدم كل كاتب معروف إلى جانبه كتابًا لأحد الكتاب الناشئين بشرط أن يكون الكتاب صالحًا وتقره لجنة القراءة». كان هذا هو ردّ يحيى حقى البسيط والعملى، والذى لا يحتاج إلى عبقرية خاصة، وتكمن عبقرية هذا الاقتراح فى تنفيذه، وبالفعل أصبح يحيى حقى منذ ذلك الوقت وربما قبله، وبالتأكيد بعده، هو قبلة هؤلاء الكتاب، طوال حياته، وقدّم الأدباء الشباب بأشكال مختلفة، وكانت تجربة كتاب «عيش وملح»، الذى صدر عام 1960، هى أول تطبيق عملى كبير ينفذه يحيى حقى دون أدنى ضجيج وضوضاء، رغم أن الكتاب قوبل بحفاوة شديدة جدا فى الحياة الثقافية. الكتاب - التجربة، شارك فيه ستة كتاب شباب، وهم السيد خميس شاهين، الشهير ب«سيد خميس» وعباس محمد عباس ومحمد جاد والدسوقى فهمى ومحمد حافظ رجب وعز الدين نجيب، وبغض النظر عن المسارات المختلفة التى ذهب كل واحد من هؤلاء فيها، فإنهم فى ذلك الوقت كانوا موجودين بقوة، ويمثلون القوة الضاربة الشابة فى الحياة الثقافية، وكتب يحيى حقى مقدمة الكتاب، وبدأها هاشًّا باشًّا مرحبًا بمن شاركوا فيها، إذ قال: «هذه المجموعة ما أحبَّها إلىَّ، إنها تنطق بمعان حلوة جمّة، عطر الربيع، وندى الزهر وهبة النسيم تنشط له النفس، يبدد خمولها ويجدد الأحلام، لم تستأثر بها أنانية فرد، يظل يصحبنا -ارتفع أو هبط- من أولها لآخرها، إنما هى عمل جماعى متساند، تعاون عليه ستة من الأدباء فى زهرة العمر، منحها كل منهم خير ما عنده وإن قل»، ويستطرد حقى فى نحت مواصفات للجيل فيقول: «سترى من الكلمات التى تقدم لهم فردًا فردًا أن بينهم جميعًا -وإن اختلفت مسالكهم- شبهًا كبيرًا، فالسن متقاربة، والبيئة تكاد تكون واحدة، ونوع الثقافة ومستواها عند الجميع سواء». وهذه الصفات والمقاربات التى ساقها لنا يحيى حقى دون فذلكة وتعقيدات نقدية، هى التى تجمع أبناء الجيل الواحد الإبداعى، رغم أن هناك كثيرين من النقاد والأدباء احتاروا فى تعريف الجيل الأدبى، واستندوا إلى مقولات نقدية جامدة، وربما جلبوها من كتابات غربية أو شرقية، ولكن يحيى حقى الكاتب والقلم والإنسان، يعبر عن هذه المقاربات فى يسر وبساطة، ويطلق عليهم مصطلح المدرسة، ويظل يطارد القلم ليكتشف بعضًا وملامح متكاملة أو شبه متكاملة لهذه المدرسة، إذ يقول فى سياق اكتشافاته: «ومن معالم هذه المدرسة أيضًا أنها مع العطف الشديد الذى تبثه فى قلبك على أبطالها فى صراعهم للحياة تبث فى نفسك الإيمان بالخير وبالمستقبل وبمقدرة الإنسان على النجاة، فهى مدرسة متفائلة غير متشائمة، إيجابية غير سلبية». وبعد هذه المقدمة الشافية والكافية، والتى شكّلت رافعة حيوية ومهمة لمعنويات هؤلاء الكتاب، وجدنا فى الكتاب مقدمات خاصة، كتبها كل كاتب لزميله فى المجموعة، فمحمد جاد كتب تقديمًا لعز الدين نجيب وللدسوقى فهمى، والدسوقى فهمى كتب تقديمًا لمحمد جاد، أما سيد خميس فهو أول من قدم محمد حافظ رجب على المستوى النقدى، أما الذى كتب مقدمة قصص سيد خميس فهو الكاتب عبد العزيز عبد الفتاح محمود. ورغم أن جيل الستينيات الذى قدمه يحيى حقى، أخذ فى التشكل والتكون والتقدم بعد صدور هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب الذى قدمه يحيى حقى يظل هو أول ضربة فأس فى تربة الكتابة القصصية الجديدة فى جيل الستينيات، ونحن بالفعل فى حاجة إلى إعادة نشر هذا الكتاب المهم والذى يمثل البيان الأول فى إعلان هذا الجيل، ولكننى أخشى دومًا أن تذهب كلماتى أدراج الرياح، وهناك من لا يدرك قيمة الغث من الثمين. ويحيى حقى الذى غامر بتقديم هذه المجموعة من الكتاب، لم يتوانَ فى تقديم الكتاب على انفراد فى مجموعاتهم الخاصة، مثل الكاتب حمد أبو الشيخ، أو إسماعيل ولى الدين، أو عادل أحمد، وكذلك أشرف على عدد استثنائى فى أغسطس عام 1966 من مجلة «المجلة»، التى كان يرأس تحريرها، ونفى الفكرة القديمة التى أشار إليها فى حواره سالف الذكر، فجعل نجيب محفوظ يقدم جميل عطية إبراهيم، وكذلك شكرى عياد يقدم إبراهيم أصلان، ويوسف الشارونى يقدم يحيى الطاهر عبد الله. وهناك شهادات رائعة كتبت عن يحيى حقى، تحتاج إلى إعادة تأمل وقراءة، خصوصًا ما كتبه محمد روميش ومحمد إبراهيم مبروك، وهناك كتاب فى غاية العذوبة كتبه الأستاذ سامى فريد الذى رافقه فى مجلة «المجلة» سنوات طويلة، وعرفه عن قرب، هذا الكتاب عنوانه «يحيى حقى الذى أعرفه.. أنا.. يحيى!!».