لم يسعدني الحظ لحضور الندوة التي نظمها المجلس الأعلي للثقافة عن أعمال الكاتب والناقد الكبير شكري محمد عياد, وقد منعتني ظروف طارئة عن المشاركة في ندوة عن أديب وناقد أكن له كل حب واحترام. وكثيرا ما يقال إن الناقد الجاد يجب أن يكون أديبا, ولعل شكري محمد عياد هو نموذج مثالي لهذا التزاوج بين الأديب والناقد. ولكي أعوض عدم مشاركتي في الندوة قررت أن أرجع إلي أعمال شكري عياد, وأعيد قراءتها وأحاول, ولو في شكل يسير, أن أقدمه إلي قرائي أنه لعل الكثير منهم لم يحظوا بمرة قراءته أو دراسته, وحين رجعت إلي مؤلفاته فوجئت بعددها, عشرات من الكتب التي تعالج نواحي مختلفة من الأدب والحياة. هذا بطبيعة الحال, بالإضافة إلي نقد العديد من الكتب والمؤلفات التي كانت حديثة حين نقدها. ويمكن أن نقسم أعمال شكري عياد إلي قسمين, قسم نظري وقسم تطبيقي القسم النظري يناقش فيه الكاتب نظريات مهمة عن الأسلوب واتجاهات البحث الأسلوبي والبطل في الأدب والأساطير, اما القسم التطبيقي في كتابه تجارب في الأدب والنقد فهو نقد لما اسماه تراث الجيل الماضي, وفيه يقدم لنا أعمال المنفلوطي والمازني وطه حسين وأمين الخولي ثم جزءا عن المسرح ينقد فيه أعمال يوسف إدريس والفريد فرج ولويس عوض وتوفيق الحكيم ورشاد رشدي ثم يخصص جزءا للشعر والشعراء فيكتب عن ملحمة ايزيس واوزوريس لعامر محمد نجيب وسفر الفقر والثورة للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ومأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور وغيرهم. وفي قسم تجارب في الرواية يقدم لنا محمد عبد الحليم عبد الله في سكر العاصفة وثروت أباظة وروايته لقاء هناك وفتحي غانم ورواية الغبي ومصطفي مشرفة ومنظرة الذي كفر وأخيرا بعنوان بين الثقافة والفلسفة والشعر يقدم لنا محمد عفيفي وكتابه التفاحة والحجر وأود أن اتوقف لحظة هنا لأتحدث عن عفيفي أولا لأننا كنا زملاء في مدرسة التوفيقية, وثانيا لأني من أنصار كتابة الفكاهة التي تنقصنا في أدبنا الحديث, ويري شكري عياد أن محمد عفيفي يعالج في هذه القصة الخيالية مشكلات فلسفية لا يستطيع أن يعالجها بهذا الوضوح إلا كاتب فكاهي لنجد عياد يقول, ولو كان محمد عفيفي فيلسوفا يكسو فلسفته ثوبا من الفكاهة ليقبلها الناس لما وجد فيه احد فكاهة أو فلسفة, ولكنه كاتب فنان يعرف أن الفكاهة بطبيعتها ذات إمكانات فلسفية, كما أنها ذات امكانيات شعرية الامكانيات الفلسفية في رأيه هي التي نراها في الأمتعة التي يلبسها الاطفال والطعام تجسم بعض الصفات: البلاهة, المكر, الحيوانية, الشره, الدم.. إلخ. أما الفكاهة ذات الامكانيات الشعرية فلا الضحك يقربنا من أخواننا البشر, فنجد في اللقاء الحميم بين نفوسنا ونفوسهم تعويضا عن أحلامنا الفردية بالعظمة والسيطرة, وقد وفق محمد عفيفي في استثمار الامكانيات الفلسفية والشعرية للفكاهة توفيقا يدعو إلي الاعجاب وخصوصا في القصة الخيالية والثقافة. كان شكري محمد عياد يمتاز بتواضع شديد, وينعكس هذا التواضع في وصف نفسه بأنه كاتب هاو وقد بدأ في الكتابة في سن ما بعد الثلاثين, وهو يذكرني بقصة شاب ذهب إلي برنارد شو, وقال إنه يريد أن أن يصبح ناقدا للمسرح, فما هي مقترحات شو للشاب, فقال شو عليك أن تقرأ كل الأدب المسرحي اليوناني ونظريات ارسطو في الشعر والدراما, وكل مسرحيات شكسبير والأدب الحديث فقال الشاب, ولكن لا استطيع أن أفعل هذا قبل سن الاربعين فأجاب شو, وهذه هي السن التي تبدأ فيها النقد. ويري عياد أنه علي حق في أن يطلق عليه نفسه لقب ناقد هاو ويري أن هذا الوصف واقعي فالإنسان الواحد تكفيه حرفة واحدة, وبما ان حرفة الكاتب الاصلية هي التعليم, فسيظل كل شيء آخر بالنسبة إليه هواية يقبل عليها بشغف الهاوي وأسفه الذي أرجو أن يكون صادقا علي أنه لا يستطيع أن يصرف اليه كل وقته, وسيظل هاويا, ولو كتب عشرات الكتب كما يتمني ويرفض عياد فكرة أن له مذهبا في النقد, ويري أن الكاتب الذي يظل دائما ابدا في حوار مع نفسه, لا يجيب علي سؤال إلا طلع له عشرون سؤالا, مثل هذا الكاتب قد يكون صاحب تفكير, ولكن ليس صاحب مذهب, قصاراه أن يجعلك تفكر معه أو تفكر ضده. وبرغم ما يقوله الكاتب إلا أنه بلاشك خرج لنا بآراء تعتبر مذاهب أو مدارس فكرية, فعلي سبيل المثال آراؤه عن الأسلوب التي يعبر عنها في أكثر من كتاب تعكس فكرا جديدا ومدرسة جديدة, ونري هذا في كتابه العظيم اتجاهات البحث الأسلوبي وهو عبارة من ترجمات لآراء العديد من الكتاب الأجانب من جنسيات مختلفة عن علم الاسلوب, والاتجاهات الجديدة فيه, وذلك بالإضافة إلي مقال بقلم د. عياد بعنوان البلاغة العربية وعلم الأسلوب, وفيه يحدد المعالم الرئيسية لدراسة الأسلوب الأدبي في البلاغة العربية وفيه يقدم آراء علماء البلاغة العرب. والواقع أن الجانب النظري لشكري عياد يحتاج إلي دراسة عميقة ولا يمكن شرحه في مقال عابر, ولكن هناك جانب آخر لا يقل أهمية عن عملية التنظير وهو التطبيق الذي يقدم لنا فيه نماذج من نقده لبعض الكتب التي صدت في الفترة التي كان يقوم فيها بنشر مقالات نقدية في عدد من الجرائد والمجلات. وقد ضم الكاتب هذه المقالات التي بدأت عام1958 حتي1961 في كتاب تجارب في الأدب والنقد وقد بدأها بقسم بعنوان أدبنا والآداب العالمية ويبدأ بمقال جميل عنوانه بين جيلين وفيه يتحدث الكاتب عن خروج الأدب الحديث عن دور التقليد الطفولي الذي يقوم به العمالقة الي دور الشعور بالكبر الذي لا يخلو من الطفولة. ويرجع الكاتب الفضل في هذا التحول إلي جيل العمالقة الذين شهدوا طفولة الأدب, فهم الذين حرروا اللغة, بصعوبة وعلي مراحل, وكان تحرير اللغة هو الأساس للتعبير الفني, ويري أن ما فعله أولئك الرواد هو المقدمة الضرورية لقيام أدب قومي يستطيع أن يقف علي قدميه بين آداب العالم, فقد أوجدوا جمهورا من القراء متقارب الميول والثقافات, يمكنه أن يتذوق ألوانا من الأدب كان ينكرها سابقوه وأتاحوا للجيل الذي بعدهم من الكتاب نشأة أدبية يحتذي فيها نماذجهم التي لم يستطيعوا أن يصوغوها الا بعد معاناة طويلة للأدب العربي القديم واطلاع مثابر علي الآداب الغربية قديما وحديثا. ويري عياد ان المهمة الكبري أمام أدبنا اليوم هي أن يكتشف نفسه وأنه مسئول عن هذه المهمة أمام أمتنا العربية, بل أمام العالم كله, وهنا يناقش الكاتب مشكلة مهمة وهي الخلاف بين أنصار الجديد وأنصار القديم وهو يري أنه بينما لا يمكن أن نكون أبدا نسخة مكررة من سابقتنا فإننا بسبب التقدم الكبير في العلم والصناعة في الغرب لا نستطيع أن نجاريهم, اذ لدينا ما نستطيع نحن أن نقدمه إلي العالم وهي القيم الروحية, ان هذه القيم الروحية لا نعتنقها من أجل العالم بل من أجل أنفسنا ولكن في نفس الوقت نضطر ونحن نعتنقها ان نتعامل مع مفاهيم عالمية, والقيم الروحية لا يمكن أن تنتج اذا لم يأخذ الأدب منها بأوفر نصيب, ويناقش الكاتب ما يسببه الأدب المختلط الذي يقوم به أدباء في بعض البلاد العربية لصبغ الأدب العربي بصيغة عالمية زائفة. ان هذا الأدب لا يمكن أبدا ان يكون أدبا عالميا, لأنه ليس أدبا علي الاطلاق, فالأدب الحق, علي حد قول عياد يحمل عصارة تراب الأرض التي نبت فيها والأدب العالمي لا ينتظر منا تقليدا سخيفا لأعماله, بل أدبا أصيلا يعبر عن ثقافة لها مقوماتها الخاصة, وأمامنا نموذج في الأدب الروسي الذي أخذ مكانة عالمية برغم الطابع المحلي القاسي الذي يتسم به.