مجدي عفيفي نعم.. ويل لأمة تستشرى فيها «ثقافة الخرافة والوهم واللا معقول»، التى تزحف بدهاء، فتعمى الأبصار والبصائر! وويل لها.. إذا انتكس فيها العقل الذى أقسم به الله العظيم فى حديثه القدسى «بعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك، بك أثيب وبك أعاقب». وويل ثم ويل لها إذا غاب عنها التفكير العلمى، لتستشرى فيها أساطير الأولين. سأظل أنا أيضًا أحذر ألف ألف مرة من أن معظم صناع القرار يعتمدون على الحدس والحس والباطن والماوراء، لتتفشى «ثقافة اللا معقول» بعيدا عن الاعتماد على «البينات» و«الوقائع» و«البراهين» و«الأرقام» و«الإحصاءات». لا نريد عودة الخطاب السياسى على طريقة «حدثنى قلبى عن ربى» فهؤلاء وأمثالهم يحدثوننا على أنهم يتلقون الوحى من الملأ الأعلى فعلا وقولا، حتى بدوا وكأنهم لا ينطقون عن الهوى! فهم حملة توكيلات السماء، والتفويض من رب السماء! انظرإلى من يسمون أنفسهم ب«القوى السياسية» وصراخهم فينا وصداعهم لنا وصراعهم بينهم، فما هم بقوى ولا سياسية. لا نريد الخطاب العلمى على طريقة مثلث الغزالى «بطد زهح واح» تحدق فيه الحامل المتعسرة فتضع حملها، فلا حاجة إذن للعلم ولا الطب ولا يحزنون «الإحصائيات العلمية تشير إلى نحو 15 مليار جنيه تنفق على أمور السحر والشعوذة فى العام الواحد، و250 ألف دجال». لا نريد اقتصادًا على طريقة «حقيقة الفقير أن يكون مغتبطًا بفقره، خائفًا أن يُسلب الفقر»، «أشار الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى أبريل 2014 إلى أن نسبة الفقر وصلت إلى 26٪، وأن معدل البطالة بلغ 13%». لا نريد الخطاب الدينى على طريقة «هب أنك دخلت جهنم فصفها»، ولا تحقق العدل والقانون على طريقة من يتشبهون بقصة «العبد الصالح» فى سورة الكهف، فيخلطون بين العدل الإلهى والعدل الإنسانى، ولا يريدون أن يتعمقوا فى الدلالة التى تفيض بها القصة، لأن فاقد الشىء لا يعطيه. لا نريد الخطاب الثقافى القائم على التعالى والإقصاء، والإقامة فى الأبراج العاجية، ينتظر أصحابه حتى يتم الحدث ثم يصفقون مع المصفقين أو يرفضون مع الرافضين، يختالون مثل الطواويس. لا نريد الفعل الاجتماعى على طريقة «اطبق جفنيك وانظر، ماذا ترى، فإن قلت لا أرى حينئذ شيئا، فهو خطأ منك، بل تبصر، ولكن ظلام الوجود -لفرط قربه من بصيرتك- لا تجده، فإن أحببت أن تجده وتبصر يداك -مع أنك مطبق جفنيك- فتنّقص من وجودك شيئا، لا بد من بذل الجهد فى قتل الأغيار: الوجود، النفس، الشيطان». إن كثيرا منا يدعى أن له فكرًا تقدميًّا، لكنه مشدود بألف خيط إلى الوراء، يزعم أنه عصرى ظاهريًّا إلا أنه يتعاطى ثقافة التخلف فى الباطن، كفانا تخلفا ورجعية، كفانا استسلامًا وانهزامية، كفانا بكاء على الأطلال والوثنية العصرية، كفانا توهانًا فى عصر الاستعارة، كفانا بغضًا للاستنارة. المجتمع يحتاج إلى كل ومضة تنوير صادقة صادرة عن فكر حى واقعى، فكر علمى واقع وليس فكرًا ميتًا مأخوذًا عن أموات، يميت القلوب الحية. المجتمع يتهيأ لصحوة فكرية قادرة على فرز الغث من الثمين، أو يفترض ذلك، فلا تتخذوا ضدها ما يصيبها بالكسل العقلى، إلا العقل، لا تعبثوا به أيها المدعون بالحق الوهمى. نريد تخطيطًا على أرض الواقع بعيدا عن تخليط الأوراق.. نريد تفكيرًا حيًّا يفجر الصخر ويجتاز آفاق الكون والنفس.. وليس تكفيرًا نعميا ومليا.. نشتاق إلى تثوير مقرون بتنوير حقيقى.. لا إظلام وجهالة عمياء، أم على الأعمى حرج؟ فهل لا بد مما ليس منه بد؟! ولا عزاء للعقل لدينا! فالعقل المتحضر فى العالم يفكر ويجرى التجارب على كيفية نقل الإنسان من مكان إلى مكان عن طريق تحويله إلى ذبذبات، ونحن لا نزال فى مرحلة: هل النملة التى كلمها نبى الله سليمان كانت ذكرا أم أنثى؟ ولا نزال فى جمود «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل»، ولا نزال نلهو فى عبثية: إطلاق اللحى أم إطلاق الحريات «!». الحرب تشتعل والعلماء يخترعون القنابل، ونحن مشغولون بسؤالنا الأهم «هل الأصح فى اللغة أن نقول قنبلة أم قنبرة؟!» على حد تعبير فيلسوفنا د.زكى نجيب محمود، بل سنظل نحن عارضو أزياء لا نحن ناسجوها ولا بائعوها، فنحن لا نزال كالمبصر الكسيح نرى الطريق ولا نستطيع السير فيه، هم يصبون الطاقة العقلية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال، هم يبدؤون بالمشكلة يبحثون لها عن فكرة، نحن نبدأ بالفكرة نبحث لها عن مشكلة. نعم.. إن طريق العقل واحد، وأما اللا عقل فله ألف ألف طريق.