مجدى العفيفى تبدو اللحظة الراهنة في المشهد العام متلعثمة الخطي ، كثيفة الضباب، ثقيلة الوقع، حتي لتكاد تحجب البصر، وترتهن البصيرة، إلا من يمتلك عيون» زرقاء اليمامة« أو يستحضر حدسها من ذاكرة الزمن العميق، وهذا أصبح عين المستحيل في ظلال النائبة العامة التي تغشي المجتمع بما فيه ومن فيه، في هذه اللحظة الفائقة الحساسية ، والتي تجبرنا علي التساؤل : في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟. وفي أي مرحلة نحن تائهون؟. أهو زمن التوهان في عصر الاستعارة؟ فما خطب هذه الساحة التي يختلط فيها الغث بالسمين، والمعقول باللامعقول، والحق بالباطل، والوهم بالحقيقة، والدين بالديناميت ، والتحزب بالتخريب؟ أهو زمن البلطجة السياسية والدينية والقانونية والدستورية والديمقراطية؟. أهو زمن بلطجة الفوضي الخلاقة في الشرق الأوسط الذي صار «الشر... الأوسط» أهو زمن الذين يتعاملون ويعملون علي أن مصر لعبة وعزبة وتكية، وقبيلة في صحراء جرداء، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون قانونا، ولا يحترمون أحكاما، ولا يعقلون جناح بعوضة مما يفعلون؟ والمثير للضجر والغضب اللفظي والموضوعي أن كل واحد منهم ينصب من نفسه قاضيا ومشرعا ومستشارا وفقيها وعالما وعلامة وفيلسوفا وعبقريا، وخبيرا و..و.. و...إلي آخر هذه القائمة المجانية.!. أهو زمن القوة، قوة الذراع والعضلات والصوت العالي الأجوف؟ أية قوي هذه التي تتصارع سرا وعلانية وتتخذ منا حقل تجارب ؟ ما هي هذه القوي؟ أهي قوة البترودولار وشراء الأنفس والفضاء؟ قوة العمائم التي تتبادل الأدوار مع القبعات؟ قوة الابتزاز والاهتزاز؟ قوة اللغو واللهو والثرثرة؟ قوة الصراخ والصداع والصراع؟ قوة الدجل الفكري والشعوذة السياسية؟ قوة القفز علي كل الحبال، ؟ قوة الفتونة والإجرام والبلطجة؟ قوة العبث بمقدرات الناس؟ قوة هدم الذات المصرية؟ قوة إضعاف الروح التي تشبثت بالحياة الكريمة المفترضة؟ قوة خدمة المصالح الخارجية؟ قوة الأجندات التي تجعل الأعمي ساعاتي؟ قوة شد المجتمع إلي الوراء والعودة إلي الخيمة والقبيلة؟ قوة الشيكات الموقعة علي بياض؟ قوة الألسنة المبرمجة بدعوات خارج العصر والتاريخ والجغرافيا؟ قوة محاكم التفتيش في ضمائر الخلق؟ قوة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؟ قوة حرق المراحل التي تسفر عن حرائق لابد ان تتم؟ قوة إخراج الألسنة بلا حياء أو خجل، في وجوهنا من قبل المتلسنين بمصطلحات انقرضت منذ زمن بعيد؟ قوة التلاعب البغيض بالبسطاء دينيا ودنيويا؟ قوة اللاعبين بالبيضة والحجر أمام الأعين لا بعد الإدبار؟ قوة الذين تسكرهم الدماء والاشلاء علي طريقة »تمر بك الأبطال كلمي هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم«؟ قوة استفزاز الباحثين عن كسرة خبز؟ قوة لظي العطش لشربة ماء؟ قوة زغللة عيون الذين نسوا شكل الجنيه؟ قوة أحزاب وهمية ديكورية خشبية بلاستيكية؟ قوة وسائل إعلامية خاوية علي عروشها إلا من الضجيج؟ قوة كميات ممن يسمون أنفسهم - بلا حمرة خجل - مستشارين وخبراء وناشطين وسياسيين وعلماء ودعاة؟ قوة أبي جهل، وأبي لهب، وثكلتك أمك، وويحك، وطال عمرك؟. أفتونا أيها الملأ .. إن كنتم للواقع تقرأون؟ . أليس هو زمن النائبة العامة؟! فعل ثوري وفعل مضاد، ملاليم وملايين، بلاغات واتهامات، ثأر بايت ودم بارد، عودة الي الوراء بقوة ، ودفع قسري الي الأمام، دين وديناميت، تشتت وبعثرة، تقدميون ومتخلفون، إسلام واستسلام، ديون ولصوص، ثراء فاحش وفقر فاحش، تكفير وتفكير، فكر فقر، وفقر فكر، صراع وصراخ وصداع، وعلاج للسرطان بقرص اسبرين، ضلال وتضليل، إصلاح مجرد اصطلاح. ونفعل مثلما بطل الأسطورة «سيزيف« نحمل الصخرة الي أعلي الجبل ثم نسقط بها، ثم نصعد بها.. ونسقط ونصعد.. ونهبط الي قاع الجب ليلتقطنا بعض السيارة أو.. لا، وإن التقطونا باعونا بثمن بخس (دولارات) معدودات؟ ونمتد بالعرض.. في عالم لايعترف إلا بالطول والارتفاع.. والاقتلاع والاقلاع؟! نعاني اجهاض الأحلام ، ومرارة إسقاط الأيام، ضياع وتوهان في عصر الاستعارة.. تجريب وتغريب وتعليب.. ولانزال نجرب ونعيد ونزيد ونلف وندور.. سدي. ما لنا لانريد ان نعترف بتقهقر الايديولوجيا وتقدم التكنولوجيا، كعنوان جديد لهذه الحقبة من مطالع قرن جديد؟ في أواسط الستينات خرج عالم الاجتماع الامريكي (دانيال بل) بكتابه »نهاية الايديولوجيا«.. وفيه ان العالم علي وشك دخول عصر جديد لايحتمل الانساق الفكرية المغلقة والقطعية، وان المجتمعات الصناعية المتقدمة اصبحت تتشابه وتتقارب في هياكلها ومؤسساتها ومشكلاتها بصرف النظر عن اللافتات الايديولوجية التي ترفعها، وصدقت نبوءة ذلك الرجل، وكما يقول عالم الاجتماع العربي د.سعد الدين ابراهيم» ان ما حدث ومازال يحدث جعل التفكير الايديولوجي ممجوجا من معظم الناس لأنهم احسوا أن الايديولوجيا هي قيد علي حرية الفكر وحرية الحركة في العالم الجديد، بعد ان كانت تلهم الفكر وحرية الحركة في العالم القديم« .. ولكن هل معني ذلك أن الايديولوجيا ستختفي من عالم اليوم؟ لا.. لن تختفي ولكنها ستتقهقر إلي المرتبة الثانية أو الثالثة كمصدر للالهام وكمصدر للصراع بين الشعوب أو من داخلها، والذين سيبقونها في المرتبة الأولي سيكونون فقط هم المتخلفون في العالم.. إن صراع الأقوياء سيكون علميا تكنولوجيا اقتصاديا حضاريا. هكذا يفكر العقل المتحضر، وهكذا يمضي العالم، ونحن لا نزال في مرحلة : هل النملة التي كلمها نبي الله سليمان ، كانت ذكرا أم أنثي؟ (!!)ولا نزال في جمود »قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل بسقط اللوي بين الدخول فحومل«(!!) ولا نزال نلهو في عبثية إطلاق اللحي أم إطلاق الحريات(!!). إن مصر أبدا.. لا هي لعبة ، ولا هي عزبة، ولا هي قبيلة في صحراء جرداء، ولا هي تكية، كما يريدون لها، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون قانونا، ولا يحترمون أحكاما، ولا يعقلون جناح بعوضة مما يفعلون، وكبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، إذن عليكم أن ترجموا أنفسكم، إذ كيف تسول لكم أهواؤكم أن تتوهموا لتجعلوا البلد أضحوكة في نظر الآخرين، والمتربصون كثر، وأنتم تعلمون؟ أين المشهد المصري الخلاق إياه؟ لقد رجمتموه، ولسوف نرجمكم إن عاجلا وإن آجلا، فالتاريخ لا يرحم، أكرر قولي هذا ، لأن ما يحدث الآن سبق التحذير منه في شروق المد الثوري، مني وغيري كثيرين، لكن في الزحام لا أحد يسمع أحدا، و» مين يسمع ومين يقرأ«. صدق الكاتب ديستوفسكي في رائعته «الإخوة كرامازوف - الأعداء» حين قال «في غياب القيم يصبح كل شئ مباحا حتي القتل». وكل شيء الآن مشاع.. حتي الوطن ! فالوطنية صارت وهما وتخلفا ورجعية!! أما الذوبان في الآخرين فهو الحق!! والتوهان في عصر الاستعارة هو الأمان! والدوران في فلك الفتوات.. هو الثبات. والمبادئ .. عنوان التزمت والانغلاق والاستغلاق! والقيم. ليست إلا تجارية واقتصادية واستثمارية وما عدا ذلك فهو حرث في البحر. والمثل... مخدرات ومسكنات ومهدئات، والتمسك بالأرض جمود بلا حدود. وإذ قلنا لهم لا تلعبوا بالدين والديناميت ، قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المتهافتون لهثا وهرولة وكذبا وفضحا وكشفا وانكشافا ، وصدق أيضا «جوبلز» وزير اعلام الطاغية هتلر« اكذب اكذب اكذب حتي تصدق نفسك». خطابات لا أول لها ولا آخر، حتي داخل الفصيل الواحد، مع أن كلمة فصيل تلقي بظلال فاضحة، لكنها لغتهم التي يفكرون ويتحدثون.. بالمناسبة أذكر بواقعة النحوي الذي سقط في حفرة أثناء سيره، فتجمّع الناس حوله لينقذوه، فخاطبهم قائلاً: »ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكؤكم علي ذي جنة، افرنقعوا عني«. ولم يفهم الناس كلامه فانصرفوا وانفضوا، أو »افرنقعوا« عنه !! هذه اللقطة تصوّر خطابات كثير من الذين يتحدثون إلينا ليل نهار، عبر الشاشات التلفزيونية وبمكرفونات الاذاعة، والمقالات الصحفية وغير الصحفية، فلا عجب إذا انصرفنا - عنهم تلقاء أشياء أخري، لتنقطع الجسور ويبهت التواصل.. إلا قليلا!. الناس تريد لغة واضحة في الخطاب، لن تصغي إلي الذين يتقعرون ويتشدقون ويتوارون خلف أستار النكات والتعبيرات الحجرية، وقديماً قال ارسطو: »تكلم حتي أراك«. وأذكر بطرفة الواعظ والراقصة في القرية ، وهو الذي كان يعظ الناس بما بين صلاة المغرب حتي العشاء ، لينفض الناس عنه، ويذهبوا الي الراقصة، ويظلوا أمام لحمها حتي مطلع الفجر ، وفي اليوم التالي يذهبون الي الواعظ مستغفرين، وهو الوعظ الذي يمثل مصدر رزق له، ولما أرادت الراقصة أن تتوب، نهرها الواعظ »وانت لما تتوبي أنا آكل منين«(!!) وهكذا يعيش المتحركون في المشهد السياسي علي همومنا وأوجاعنا، ومصائب قوم عند قوم فوائد. إن الذين يبيعون لنا الوهم أكثرهم واهمون وكلهم خاسرون! والذين آمنوا بأنهم الأعلون في أحاديثهم، وأنهم المخلصون لنا من براثن الجهل، أثمانهم قليلة! والذين قالوا.. ويقولون.. ويتقولون، لو أنهم صمتوا قليلاً لكان خيراً لهم.. وليس لنا..! ومن أين يأتي الخير، والحوار من طرف واحد؟ وكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟!. ربما نسمع منهم مرة أو مرتين..!ربما نقرأ لهم مقالة أو مقالتين..!ربما يبهروننا بلقطة أو لقطتين! لكن يستحيل أن نواصل ونتواصل.. أو ننفعل ونتفاعل..أما الذي سيحدث أو يحدث فعلاً فهو اننا »سنفرنقع« عنهم..أليس كذلك.. ؟ نعم .. فالنائبة عامة.. لا تبقي ولاتذر، لواحة لنا أجمعين .. فهل من مدكر؟.