لقاء اليوم بين الرئيس السيسى ورئيسَى اليونان وقبرص، لقاء مهم.. وقد حرصت مصر على تأكيد أن الهدف هو تعزيز التعاون بين الدول الثلاث، وأن اللقاء ليس موجَّهًا ضد طرف آخر (!!) ولكنه يمثِّل خطوة مهمة وضرورية لحماية المنطقة البحرية بين مصر واليونان وقبرص من أى انتهاكات (!!) وهو أمر لا بد أن تكون له الأولوية حتى لا تتحوَّل المنطقة إلى ساحة لصراعات غير محسوبة، خصوصًا بعد الاكتشافات الكبيرة لحقول الغاز فى هذا الجزء من البحر المتوسط! العلاقات بين الدول الثلاث علاقات تاريخية، ولقد شهد جيلى آخر فترات ازدهارها بعد ثورة يوليو.. كان اليونانيون هم الجالية الأكبر فى مدينتى بورسعيد، وكانوا هم أقرب الشعوب الأوروبية إلينا، وكانت قبرص تسعى مثلنا للخلاص من الاحتلال البريطانى.. وكان الأسقف مكاريوس يتزعَّم الحركة الوطنية هناك، وكان الجنرال «جريفاس» يقود منظمة «أيوكا» التى كانت الجناح العسكرى للثورة القبرصية.. وكانت مصر -رغم ظروفها الصعبة- تقدّم كل ما تستطيع من مساعدة كما كانت تفعل مع كل حركات التحرر العربية والإفريقية، وكانت ترتبط مع ثورة قبرص بأوثق العلاقات، كما كانت الحال مع كل ثورات العالم الثالث من أجل الحرية والاستقلال. ولم يذهب شىء من ذلك سُدى.. يكفى فقط أن نذكر موقف اليونان وقبرص المساند لمصر فى معركة تأميم قناة السويس، وفى التصدّى للعدوان الثلاثى عام 1956، فعندما جاءت لحظة استعادة القناة بعد سحب عرض تمويل السد العالى، كان آخر جندى بريطانى من جنود الاحتلال قد غادر مصر قبل أسابيع، وسيطرت قواتنا على القاعدة البريطانية التى كانت تتمركز على طول قناة السويس، والتى كانت أكبر القواعد العسكرية البريطانية فى الخارج.. لكن الخطر -كما رآه عبد الناصر يومها- كان من القاعدة البريطانية الأقرب إلى مصر، وهى قاعدة قبرص.. وكان على عبد الناصر أن يتأكَّد من عدم جاهزية القوات البريطانية هناك للتدخل السريع، وهو ما طلبه من مكاريوس وجريفاس.. وبسبب ذلك تأخَّر إعلان تأميم القناة -كما يذكر الأستاذ هيكل فى ملفات السويس- من 23 إلى 26 يوليو، حتى جاءت التأكيدات من الأصدقاء فى قبرص. بعد أقل من شهرين كان الأصدقاء اليونانيون والقبارصة معنا فى مواجهة فصل آخر من المؤامرة، حين قرر المتآمرون سحب المرشدين الأجانب، لتعطيل العمل بالقناة.. ويومها رفض المرشدون اليونانيون الانسحاب، واستمروا فى العمل إلى جانب ضباط البحرية المصريين، الذين كان قد تم إعدادهم لمواجهة مثل هذا الموقف.. ونجحنا فى إجهاض المؤامرة، رغم أنهم كانوا قد حشدوا أعدادًا أكبر من المعتاد من السفن الطالبة لعبور القناة، ورغم أن عدد المنسحبين من المرشدين كان مؤثرًا، لكن «ابن البلد كفّى»، كما قال الجميل صلاح جاهين فى أنشودته الرائعة التى غنَّتها أم كلثوم فى هذه المناسبة الوطنية «محلاك يا مصرى وانت ع الدفة»! لسنوات طويلة ظلَّت العلاقات مع اليونان وقبرص فاعلة، والتعاون كاملًا.. ثم جاءت سنوات التراجع التى وضعنا فيها 99٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، وأهدرنا كل علاقاتنا بدول العالم.. من روسيا والصين والهند، إلى إفريقيا ودول المتوسط، وهو الأمر الذى نعمل على تصحيحه الآن بعد أن استعادت مصر بالثورة استقلالها الحقيقى، وعادت لتقيم علاقاتها على أساس التكافؤ وتحقيق المصالح المشتركة.. وما أكثر هذه المصالح التى يمكن أن تتحقَّق بالتعاون مع اليونان وقبرص، هذا التعاون الذى نكرر أنه ليس موجَّهًا ضد أحد، ولكنه يستهدف الحفاظ على الحقوق ومنع أى انتهاكات لها أو سطو عليها!