يذهب هيجل إلى الربط بين الفكر والحرية، فكونك تفكر يعنى أنك حر، والحرية لدى هيجل تكاد تعنى الإنسانية، فالحرية هى حركة الروح على طريق الوعى بنفسها، فمن دون حرية لا يكون ممكنا أن يعى الإنسان نفسه، وعندها يتحول إلى جسد محض، أى شىء يمكن استخدامه، على نحو يحيله عبدا، يمكن امتلاكه. والعبودية هنا لا تقتصر على الشكل التقليدى الموروث من العصور القديمة والوسطى والمتمثلة فى الرق، حينما كان ممكنا أن يشترى الجسد ويباع صراحة، لكنها تمتد فى عديد من الصور والأشكال الحديثة التى يزخر بها عالمنا، حيث تباع الأرواح وتشترى الضمائر وتُسلع القيم، فما الذى يبقى من الإنسان عندئذ؟ كان هيجل قد تحدث صراحة عن مفارقة العبودية والسيادة مفسرا لها بكونها تكمن فى تلك اللحظة التى عجز فيها إنسان عن مقارعة إنسان آخر رفع السيف فى وجهه، وعندها لم يكن هناك بد من الاستسلام لإرادة صاحب السيف، فالعبودية للسيد أصبحت بديلا عن الموت بالسيف، وهو الاختيار الذى ساد التاريخ الإنسانى فى معظم الحقب والعصور تحت ظن أن الوجود يعنى أن تكون حيا، قبل أن تولد حساسية جديدة «حداثية» ترى أن الوجود يعنى أن تكون حرا، وهى حساسية أفضت إلى ميلاد ثنائية جديدة فى التاريخ، وهى ثنائية الحرية- الموت، بديلا عن الثنائية الموروثة الحرية- العبودية. غير أن الحرية كفكرة صارت مركزية فى الوعى الإنسانى ليست هى ذلك المفهوم البسيط «اللذيذ» الذى يحلو للبعض أن يعبث باسمه فى كل شىء، وأن يدمر كل شىء، بل هى ذلك السهل الممتنع، الذى يجعل كل شخص منا سيدا وعبدا معا، ملكا ومملوكا فى آن. إنه السيد والملك فى ما يخص اختياراته، التى تبقى حقا أصيلا له، لكنه العبد والمملوك فى ما يتعلق بمسؤوليته عن تلك الاختيارات، وما يعلق بها، ويصاحبها من أخطاء، تصيب الآخرين أو تصيبه هو نفسه، فالحرية هنا معاناة يومية يسعى الإنسان من خلفها أن يكون أفضل حتى لو لم يكلل مسعاه بالنجاح، والعبودية هى الاستسلام للكمون والجمود والخلود إلى الراحة ابتعادا عن المعاناة، التى هى بالمعنى الدينى جهاد النفس، وهو أشق أنواع الجهاد وأصدقه قياسا إلى ما يدعيه المتأسلمون من صور عنيفة وعدمية له. يقترب بنا هذا الفهم من روح الفلسفة الوجودية، كأعتى فلسفة إنسانية فى الدفاع عن الذات الفردية وحقها فى الحضور والفعل، حيث الحرية الإنسانية تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، ومن المستحيل تمييز الحرية كنشاط إرادى، عن الإنسان ككائن واقعى. فلدى كيركيجورد يبدو الوجود ديالكتيكا مستمرا، كونه انتقالا من الذات إلى الآخر، احتكاكا ومصادمة وصراعا، فحين أحاول التحرّر من تأثير الآخر علىَّ، يحاول الآخر أن يتحرّر من تأثيرى أنا عليه، وحين أحاول أن أستعبد الآخر يحاول الآخر أن يستعبدنى، فالصراع هو المعنى الأصلى للوجود، لكن الصراع هنا ليس ذلك المفهوم المحدود والقاصر على محاولات الإفناء المتبادل بين أشخاص بذواتهم، لكنه المفهوم الأوسع لحالات التدافع الإنسانى، والسياسى، الحضارى، حيث ينمو الوجود على صراع الأضداد، وتفاعل الأنداد، وارتقاء أنماط الفعل والتأثير فى الصيرورة الدافقة للحياة.