أعجبتنى كثيرا رواية «مجهولات»، الصادرة عن دار ميريت بترجمة سلسة من رنا حايك، والتى أعيد طبعها بمناسبة فوز مؤلّفها الفرنسى باتريك موديانو بجائزة نوبل فى الأدب لهذا العام. موديانو نحَّات بارع للشخصيات، لديه رؤية إنسانية متعاطفة، مع عناية مذهلة بالتفاصيل، الأماكن لها دور محورى، وصنعة السرد فى ذروتها، ممتع جدا، مع تأثر واضح بالفلسفة الوجودية التى نقلت معركة الحياة ومسؤوليتها إلى داخل الفرد الوحيد المنعزل. لعل الملاحظة الأولى هى أننا أمام حكاية عن شخصيات نسائية لا يجمع بينهن سوى أنهن عشن فى عاصمة النور، وأنهن جميعا يشعرن بالظلام والوحدة، تستطيع القول إنهن غير منتميات، لديهن قلق وجودى عام، وقلق شخصى نتيجة ظروف حياتهن، الشخصيات الثلاث بلا أسماء، مجهولات ليس فقط من خلال غياب الاسم، لكن أيضا مجهولات بالنسبة إلى الآخرين وإلى أنفسهن كذلك، هناك مفارقة واضحة فى حضور الأماكن بأسمائها وتفاصيلها، فى مقابل غياب أسماء صاحبات القصص الثلاث. «مجهولات» فى معناها الأعمق عملية بحث معقدة عن الذات والهُوية، محاولة (فاشلة غالبا) للحصول على طمأنينة فى عالم قلق متغيّر، لدى كل شخصية قدرة على ممارسة حريتها واختيارها، لكن هذه الحرية نفسها تزيد من قلق الشخصية ومعاناتها، وبحثها عن مرشد أو مخلّص. فى القصة الأولى: ابنة مدينة ليون تعمل على الآلة الكاتبة، تحلم بدخل أكبر، تذهب لمقابلة لكى تكون عارضة أزياء، تفشل رغم أنها تمتلك بروفايلا رائعا، كما قال لها صاحب الاختبار، أملها الآن فى صديقة ثرية تعرَّفت عليها اسمها ميراى ماكسيموف. ابنة ليون تنزل إلى باريس، لا شىء تقدمه لها ميراى المتعاطفة سوى مكان للإقامة، وسهرات مع شخصيات بورجوازية تمارس الثرثرة، قد يكون الحب وسيلة لقتل القلق، وفتح الجدار المسدود... هو أيضا غريب، له اسم مستعار، يقول إن والده الذى اختفى وتركه فى الملجأ هو قنصل بيرو، له شركة وعمل غامض، ذات يوم يقبض عليه البوليس، تصبح هى بالنسبة إلى الشرطة مجرد فتاة مجهولة شقراء، تنتهى الحكاية وهى تبحث عن مخرج طوارئ: «غالبا ما يطلقون على الفتيات اللاتى يتم انتشالهن من مياه (الساون) أو (السين) صفة مجهولات الهوية أو غير المعروفات، أما أنا فأتمنى أن أبقى هكذا للأبد...». فى القصة الثانية: فتاة أكثر جسارة، منبوذة من أمها وزوج أمها، تحمل ذكرى غائمة عن أب يقولون عنه إنه متهوّر ومقاتل، فى الثامنة عشرة من عمرها تعيش حياة روتينية فى مدرسة للراهبات، الطعام، الشراب، المذاكرة، النوم، حتى الحديث مع الأخريات له نظام وموعد، تحلم بالذهاب إلى باريس دون أن تحقق ذلك، تعمل خادمة مع خالتها لدى الأثرياء، تعرف حكاية والدها من صديقه القديم، يعطيها أشياء قليلة كانت مع الأب، مثل مسدسه الخاص، تدرك أنها متمردة مثله، تترك مدرسة الراهبات، كانت تحمل معها فى المدرسة حبوبا للانتحار جاهزة عند اللزوم، تحصل على أموال من سيدة ثرية لمجرد رعاية كلبها، فى جنيف، تعمل عند ثرى يريد أن يتسلّى بها جنسيا هو وصديقه، نسيت حبوب الانتحار، لكن ما زال فى حقيبتها مسدس والدها القديم. فى القصة الثالثة: تلك الفتاة المجهولة القادمة من لندن، حصلت على مفتاح لشقة باريسية من صاحب المكان النمساوى الثرى، لا يريد منها سوى أن تحرس المكان، وأن تستمتع بوقتها، فى لندن، كانت مجرد امرأة عاملة مثل الكثيرات، حبيبها غادرها بلا رجعة، حتى الصورة الوحيدة التى التقطها مصوّر متجول لهما معا، فشلت فى الحصول عليها من عامل محل التصوير العدوانى كاره النساء، وحيدة فى شقة باريس، تسمع كل فجر أصوات الخيول الراكضة، تكتشف أنها تسكن بجوار مسلخ يذبحون فيه خيول السيرك التى لم تعد لها وظيفة، الجزارون بملابسهم الملطّخة بالدماء، يتبادلون فى الحانة نخب البيع والشراء، ويعدّون نقود محافظهم المكتظة، مرفأ وحيد هو مدرس الفلسفة العجوز، يطلب منها نسخ بعض مؤلفاته، ومؤلفات الدكتور «بود» على الآلة الكاتبة، «د.بود» يحاول أن يدل أتباعه على منهج لاستعادة الذات، وتحقيق بعض الانسجام، فى منزل سيدة ثرية، تنضم فتاة لندن إلى المجموعة الباحثة عن الظل والنور داخل الذات، فى الحى الذى اشتهر بجمع الأشياء الضائعة، هناك فرصة لكى تحصل بطلتنا على صورة لم تجدها فى لندن. بطلات «موديانو» عابرات للحياة، معلَّقات فى الهواء، البطلة الأولى لها أسرة، ولكنها غريبة عن عائلتها، البطلة الثانية منبوذة بعد موت والدها، البطلة الثالثة لا نعرف شيئا عن عائلتها، البطلات الثلاث تطاردهن أحلام قاسية، إحداهن تحلم أنها تسير فى الوجل، لا تطلب كل واحدة شيئا مستحيلا: الأولى تريد وظيفة فى باريس، والثانية فى انتظار ما تعتقد أنه «الحب الكبير»، والثالثة تريد صورة مع حبيب لن تراه أبدا، مشكلة بحث عن انتماء إلى شىء أو إلى شخص أو إلى فكرة أو إلى مكان، فى زمن تُذبح فيه الخيول، ويُلقى فيه الأبناء فى الملاجئ، وتتحوّل فيه الفتيات إلى آلات فى مدرسة، يحلمن بالتحرر حتى من خلال الانتحار، لوحات إنسانية تثير الشجن، هذا القلق الوجودى النبيل يخاصم العادى والمألوف، ويبدو بلا حل، لأسباب تتعلق بالعالم، وتتعلق بالذات أيضا. انطباعى جيد جدا عن باتريك موديانو من خلال قراءة «مجهولات».. أتمنى أن تُستكمل ترجمة بقية رواياته العشرين إلى العربية.