محمود بيومي مثَّلت زيارة رئيس الوزراء الليبى، عبد الله الثنى، للخرطوم فى أكتوبر مرحلة جديدة فى العلاقات بين البلدين بعد أشهر من الجمود والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، فكيف يمكن فهم تغيّر موقف نظام الإنقاذ الحاكم فى السودان من تطورات المشهد الليبى خلال الفترة الأخيرة؟ بدايةً يجب الإشارة إلى موقف الخرطوم المؤيد للثورة، نظرا إلى الدور الذى لعبه القذافى طوال سنوات ومنذ الثمانينيات فى زعزعة استقرار السودان ودعم التمرد فى جنوب السودان، حتى تشجيع انفصاله عن الشمال، ودعمه لحركات التمرد الدارفورية، لذا لم يكن مستغربا دعم السودان للثورة -وإن كان بشكل غير معلن- فى البداية حتى سقوط النظام، قبل أن يعلن البشير ذلك علانية. دعم نظام البشير بعد الثورة علاقات قوية مع التيارات الإسلامية بمختلف تنوعاتها فى السودان، لأغراض متعددة، يأتى على رأسها طرد جماعات التمرد من الأراضى الليبية، ووجود نظام صديق فى ليبيا بدلا من نظام القذافى، واحتضان الجماعات الإسلامية الليبية ورعايتها فكريا، وتدعيم شرعية النظام الداخلية. وقد أثارت هذه العلاقات شكوكا كثيرة نظرا لعدم اقتصارها على التكوينات السياسية، بل امتدادها إلى الجماعات المتشددة، كجماعة أنصار الشريعة التى قامت فى أغسطس وسبتمبر 2013 بإرسال 50 طنا من المساعدات للخرطوم لمواجهة تأثير الفيضانات وعملت بشكل رسمى فى السودان، بل وتم استقبالها واستضافتها فى تليفزيون محلى، وهو ما يطرح أسئلة حول أهداف هذه العلاقة؟ وهل يستخدمها نظام الخرطوم كأداة ضغط ضد خصومه كما فعل فى مرحلة التسعينيات مع تنظيمى الجهاد والجماعة الإسلامية واستضافته لتنظيم أسامة بن لادن؟ ونتيجة هذا الموقف السودانى فإن حكومة الخرطوم قد اتخذت موقفا سلبيا من البرلمان الجديد المنتخب والمنعقد فى طبرق، ولم تسارع بالاعتراف العلنى به، بينما اتهمت حكومة الثنى فى 15 سبتمبر حكومة الخرطوم بإرسال طائرة محمَّلة بالسلاح إلى قوات فجر ليبيا فى طرابلس، بينما نفت الخرطوم وقالت إنها مرسلة إلى القوة الليبية-السودانية المشتركة المتمركزة فى الكفرة بقيادة العقيد سليمان حامد الزوى، ولذا فإن زيارة رئيس الوزراء الليبى عبد الله الثنى للخرطوم مثَّلت مفاجأة لجهة التحسن فى العلاقات بين الطرفين، لكن يمكن فهم هذا التحسن المفاجئ ب3 تطورات رئيسية: 1- التطورات الإقليمية: حيث اتخذت السعودية والإمارات موقفا متشددا من السودان سياسيا وماليا، وهو ما تزامن مع وصول نظام جديد للحكم فى مصر، وهو ما اضطر النظام السودانى إلى تغيير سياسته بشكل مؤقت لتخفيف الضغط. 2- التطورات الليبية: حيث نجح مجلس النواب الجديد فى اكتساب الشرعية الدولية المطلوبة، وبدا قادرا على مواجهة الضغوط السياسية والعسكرية، والقيام بهجمات ناجحة فى بنغازى، لذا فإن الخرطوم اضطرت إلى فتح خطوط الاتصال مع طبرق لتخفيف الضغط الدولى والإقليمى فى آن واحد. 3- العلاقة مع مصر: مارست مصر ضغطا على نظام الخرطوم لتغيير موقفه من الأزمة الليبية، وليس مصادفة أن زيارة الثنى للخرطوم أتت بعد أيام من زيارة البشير لمصر، وتصريحات السيسى بأن مصر والسودان اتفقا على دعم المؤسسات الشرعية، وفى مقدمتها الجيش الوطنى الليبى. ويبدو أن صفقة مصرية سودانية قد تمت لتمرير الموقف السودانى الجديد، وربما توسط مصر لفتح خطوط العلاقة مع الخليج مقابل تغيير الموقف السودانى من ليبيا، واتخاذ موقف مشترك من سد النهضة. لذا فإن التساؤل المطروح الآن: هل يمثّل هذا التغيير فى الموقف السودانى تغييرا استراتيجيا أم تكتيكيا مؤقتا؟ وأجادل هنا بأن التحسن الحالى فى العلاقات لم يأتِ نتيجة تغيير استراتيجى فى السياسة السودانية، بقدر ما أتى استجابة لضغوط خارجية وداخلية متعددة، على رأسها الضغوط الاقتصادية، ومحاولة فك العزلة الدولية والإقليمية للنظام الحاكم. وتدعم هذه الفرضية سياسات الخرطوم المزدوجة تجاه الأزمة الليبية، فقد استقبلت الخرطوم رئيس المؤتمر الوطنى المنتهية ولايته، نورى أبو سهمين، فى 2 سبتمبر، كما استقبلت محمد صوان، رئيس حزب العدالة والبناء، الجناح السياسى لجماعة الإخوان المسلمين الليبية، فى 22 أكتوبر للمشاركة فى المؤتمر العام الرابع لحزب المؤتمر الوطنى الحاكم، كما يواصل السودان احتفاظه بعلاقاته مع الجماعات الليبية المسلحة المختلفة، وكان لافتا فى زيارة عبد الله الثنى للخرطوم استغراقها ثلاثة أيام كاملة، ولقاؤه المطوّل مع رئيس جهاز الأمن والمخابرات السودانى، محمد عطا، فى إشارة إلى طبيعة العلاقة وأبعادها بين الطرفين. من هنا فإن نظام الإنقاذ سيواصل نهجه المعهود باتّباع سياسة «التقية» لتخفيف الضغوط المختلفة عليه، دون تغيير توجهاته النهائية، ولا موقفه من أطراف الصراع الليبى.