1 كان بمثابة فرعون بُعث ليسير فى شوارع القاهرة فى القرن العشرين، احتفظ لنفسه بكل سمات الفراعنة كما نشاهد تماثيلهم المحنطة، ينطلق بخطى ثابتة، وواثقة، وشموخ، وهدوء، ويبدو عملاقا رغم قصر قامته! هكذا بدا الأديب الأثرى كمال الملاخ لكل من رآه وعرفه، لذا كان بديهيا أن يكون مختلفا، ومخالفا للأنماط السائدة، وفريدا فى تفرده، ومتفردا فى ثقافته فجمع بين دراسة الفنون الجميلة، وعمله كمهندس متخصص فى شؤون الآثار، وقدرته على الكتابة العميقة دون تعقيد ليجمع بين عضوية نقابة الصحفيين، وعضوية الجمعية الجغرافية العالمية فى الولاياتالمتحدة، التى اختارته عضوا فخريا بها مدى الحياة. قيمة الملاخ الكبرى أنه نموذج مدهش لما يجب أن يكون عليه الصحفى، فهو عالم، وفنان، وأديب، وقد بدت مواهبه واضحة منذ كان طالبا لم يتجاوز عمره الستة عشر عاما، حين لمعت فى ذهنه فكرة أن يدعو عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين -الذى كان يقيم فى الفيلا المقابلة لكلية الفنون بالزمالك- ليفتتح معرضه، ويشاهد لوحاته، وبالفعل حضر طه حسين، وطاف به الملاخ شارحا لوحاته فى ثقة وهدوء. ومرت سنوات والتقيا مرة أخرى بعد أن صار الملاخ معيدا، وفى أثناء سير الملاخ بجوار عميد الأدب العربى معيدا بقسم العمارة فى كلية الفنون الجميلة، وحضر عميد الأدب العربى الذى كان يعمل مستشارا فنيا لوزارة المعارف، وقال مخاطبا الملاخ: «أنا سمعت بموهبتك من توفيق الحكيم، وأتمنى أن تنميها بدراسة الآثار»، واندهش كمال، وقال: «وأنا مالى والآثار، وقد عقدت العزم على أن أكون مع الأيام أستاذا للعمارة والفن»، ولكن العميد رد بحسم: «وهل الآثار إلا عمارة وفن؟!». واستجاب الملاخ، والتحق بالجامعة لدراسة الآثار، وحصل على دبلوم عال فى الآثار المصرية مثل كبار علماء الآثار، ثم صار مهندسا ومديرا للأعمال بمنطقة الهرم، بعد أن جابَ الصعيد منقبا ومتفحصا آثاره. 2 وفى 25 مايو 1954، طلب كمال الملاخ من مصلحة الآثار أن يعيد البريق إلى الهرم الأكبر بتنظيف الطريق المؤدى إليه من الرمال المترامية فوقه، فتمت الموافقة وبدأ العمل، وفى أثناء عملية التنظيف جاءه كبير العمال ليقول له لقد عثرنا على «دبش»! شعر الملاخ أن هناك شيئا ما خلف هذا «الدبش»، فبدأ النبش خلفه، وقام بحفر 180 مترا وراء هذا الحجر الكبير، فاكتشف سورا يبلغ طوله نحو 150 مترا، ثم عثر على أحجار جيرية تحت السور، ثم بدأ يطرق أبواب الأحجار، فشاهد شيئا أسود لم يحدده، لكن بعد أن تفحصه، انتفض صائحًا فى مَن حوله «مركب.. دى مراكب الملك خوفو يا جماعة»! كانت هذه المراكب عبارة عن عدة ألواح خشبية يبلغ طول الواحد منها نحو 43 مترا، وعرض اللوح ستة أمتار، ولكنها مفككة الأجزاء، فأعطى الملاخ الإشارة لإعادة نفس ترتيب وترقيم وتركيب هذه القطع الخشبية القديمة التى وُجدت فى حفرتين بجوار الهرم الأكبر، ليرى العالم ما كانت عليه (مراكب الشمس منذ ما يقرب من 5000 عام)، وقد كان فراعنة مصر واضعين علامات بين الأجزاء المتشابهة، التى يتداخل بعضها مع بعض، ومن العجيب أن جميع الأجزاء لا يربطها مسمار، ولكنها متداخلة. لم يُصدق الملاخ نفسه من الفرحة بعد اكتشافه واحدة من كبرى الاكتشافات الأثرية فى القرن، فخرج معلنا عن الاكتشاف الكبير الذى احتفى به كل علماء الدنيا، ونقلته وكالات الأنباء، وعُرفت مراكب الملك خوفو باسم «مراكب الشمس»، لكن حين عاد الملاخ إلى مقر عمله فى مصلحة الآثار، وجد ورقة مُعلقة باسمه فى كشف «الخصومات»، فقد عوقب بخصم عشرة أيام من راتبه، لأنه أعلن عن الكشف دون إذن! لم تكن مراكب الشمس هى السيمفونية الوحيدة التى عزف عليها الدكتور الملاخ، فالرجل له إنجازات لا تقل أهمية عن مراكب الشمس، حيث عمل على ترميم آثار جزيرة فيلة بأسوان، وكشف عن حمام سباحة يونانى قديم، ورمم هيكله، وقام بترميم قلعة برج العرب، وفى سنة 1949 قام بترميم أهرام الجيزة من الداخل والخارج. 3 وقبل واحد وعشرين عاما، وتحديدا فى 26 أكتوبر عام 1918، بعد أربع سنوات من اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، وبداية الحرب العالمية الأولى، انتهت الحرب بانتصار إنجلترا وحلفائها وهزيمة ألمانيا، وقرر السلطان أحمد فؤاد أن تتحمل الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه ديونا كانت لمصر على إنجلترا فى أثناء الحرب، وذلك اعترافا بجميل بريطانيا التى حمت البلاد من خطر الغارات! ولم يعرف المصريون هذا القرار الذليل فى حينه. وتقدم سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى بطلب للمندوب السامى البريطانى للسفر إلى لندن، لعرض مطالب مصر، لكنه لم يستجب، وقال لهم: «من أعطى لكم حق التحدث نيابة عن الأمة؟»، فقرر الثلاثة تكوين جبهة ضمت عددا كبيرا من رموز العمل الوطنى لجمع توكيلات من الشعب المصرى. وقد نص التوكيل على: «نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات..... فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة، حيثما وجدوا للسعى سبيلا فى استقلال مصر استقلالا تاما»، وتم طبع التوكيل ليلا وبأعداد كبيرة خرج بها آلاف الشباب إلى مختلف المحافظات. كان هذا العام حافلا بالأحداث الهائلة، وبميلاد عدد كبير النجوم اللامعة فى السياسة والفن والأدب والصحافة والثقافة، فقد ولد الزعيم جمال عبد الناصر، والرئيس أنور السادات، والفنانة ليلى مراد، والمطرب والملحن الشيخ إمام، والأديب المسرحى نعمان عاشور. فى هذا العام ولد الأديب والأثرى والصحفى والفنان كمال يونان الملاخ بمحافظة أسيوط. أحب أسرته وارتبط بوالدته بشدة، وقبل أن يصل إلى سن المدرسة انتقل والده للعمل بأحد البنوك بالمحلة الكبرى، فتلقى الطفل كمال تعليمه الابتدائى هناك، ثم أتم تعليمه الأساسى فى القاهرة فى مدرسة السعيدية، ليلتحق بعدها بكلية الفنون الجميلة قسم العمارة، ليصقل موهبته، وبدأ حياته العملية مهندسا معماريا، ثم ضابط احتياط بسلاح المهندسين، ثم انتقل إلى التدريس بكلية الفنون الجميلة، ومعهد السينما والجامعة الأمريكيةبالقاهرة، قبل أن يتجه إلى بلاط صاحبة الجلالة، ليعمل رساما، ثم ناقدا فنيا فى جريدة «الأهرام» عام 1950. وفى أثناء كتابته فى «الأهرام» كان صاحب فكرة إقامة مهرجانات سينمائية دولية بالقاهرة والإسكندرية، فصار أول رئيس لمهرجانى القاهرة والإسكندرية السينمائيين، وكتب المادة العلمية ل18 فيلما ثقافيا قصيرا عن الفراعنة، وشارك فى ترميم أبو الهول والأهرامات، وقدم 32 كتابا فى شتى فروع الثقافة، من بينها «صالون من ورق»، و«حكايات صيف»، و«النار والبحر»، وهى الكتب التى تسجل براعة كاتب بدرجة عالم.