صدق أو لا تصدق.. رغم أن مصر تعيش فى القرن الواحد والعشرين، وشهدت خلال ثلاث سنوات فقط ثورتين شعبيتين أطاحتا بنظامى حكم بحثًا عن الكرامة الإنسانية، فإن بعض قراها، وربما مدنها، لا تزال تعيش وسط برك الصرف الصحى الناتج عن تهالك الشبكات، ناهيك بأماكن أخرى لا يوجد بها نظام آمن للصرف الصحى من الأساس، بكل ما يتضمنه الوضع فى الحالتين من أمراض ومشكلات بيئية، ويكفى أن لائحة المصائب التى قد تصيب المرء جراء مشكلات الصرف فى مصر تتصدرها الأمراض السرطانية. فى المنياوكفر الشيخ، مثلا، تعيش قرى بأثرها فى خطر داهم، حيث يخشى الأهالى من سقوط منازلهم وانهيارها، بعد تشبعها بالمياه، التى باتت تنخر فى الأساسات، فى حين أن بعض الأهالى لديهم مشكلة أخرى تتعلق بالصعوبات التى يواجهونها كلما أرادوا الدخول إلى محال إقاماتهم بعد أن سدت مياه الصرف المتسربة مداخل بيوتهم. ولأن الأزمات لا تأتى فرادى فى بر مصر فقد أدى التسريب المستمر لمياه الصرف الصحى فى عدد من الأماكن إلى أن يختلط بالمياه الجوفية هناك، كما هو الحال فى قرية الباجور بالمنوفية، الأمر الذى أدى إلى إصابة العشرات من السكان بالتيفويد نتيجة تلوث مياه الشرب. «كتشنر».. وباء فى جسد كفر الشيخ كفر الشيخ- أشرف مصباح: مصرف كتشنر هو أحد الأوبئة الفتاكة فى جسد محافظة كفر الشيخ، إذ يتسبب المصرف سنويا فى إصابة آلاف الأشخاص بالأمراض الخطيرة المعدية، لما يسببه من تلوث ناجم عن مخلفات أكثر من 50 شركة صناعية تلقى فيه فضلاتها المعدنية الثقيلة، بداية من مدينة المحلة الكبرى، وانتهاء بالمصب فى بحيرة البرلس، والبحر المتوسط. كتشنر يبلغ طوله نحو 68 كم، ويبدأ من محافظة الغربية بطول 22 كم، ثم يمر فى زمام محافظة كفر الشيخ بطول 46 كم، ونظرا لوجود أزمة متكررة فى مياه الرى بكفر الشيخ، حيث تقع المحافظة فى حدود المصبات والترع، ما يؤثر بالسلب على كمية المياه التى تصل إلى الأراضى الزراعية بالمحافظة، الأمر الذى يضطر معه الفلاحون إلى استخدام مياه مصرف كتشنر الملوثة فى رى أراضيهم، وتعريض حياتهم للخطر، وارتفاع نسبة الإصابة بفيرس «c» بين عدد كبير من المزارعين، كما يعد المصرف مسؤولا عن نشر الروائح الكريهة، ومرتعا للحشرات والقوارض والثعابين، إلا أن خطورة المصرف لا تقف عند هذا الحد، وتمتد كونه يمر بجوار الطريق المؤدى إلى مراكز: الحامول، وبيلا، وبلطيم، مما يؤدى بأكثر حوادث السيارات التى تقع فيه إلى الموت، نظرا لصعوبة استخراج الضحايا من المياه الملوثة، فضلا عن عشرات الأطفال، الذين يلقون حتفهم فى أثناء اللهو بجواره. وعلى الرغم من تخصيص الدولة مبلغ 200 ألف جنيه، فى عهد رئيس الوزراء الأسبق، أحمد نظيف، فإن المبلغ خرج من أدراج وزارة المالية والاستثمار ليذهب إلى جيوب كبار الفاسدين من أصحاب المصانع، بينما لم تتم تنقية ومعالجة مياه المصرف، وظل الأمر على حاله. كتشنر والأمراض الفتاكة فى البداية يقول الدكتور أحمد إسماعيل نور الدين، الباحث بقسم بحوث الأحياء المائية بالمركز القومى للبحوث، إن ارتفاع معدلات التلوث بالعناصر الثقيلة فى الأسماك فى مناطق التلوث بمحافظة كفر الشيخ والمناطق المجاورة، يؤدى إلى إصابة المستهلكين بمرض ضمور العضلات، وهشاشة العظام، إضافة إلى إصابة الإنسان بشلل الأطراف، وأوضح نور الدين أن ارتفاع نسبة تلوث المياه بالكادميوم يسبب الإصابة بأمراض ارتفاع ضغط الدم، وتضخم القلب، وفقر الدم، والإصابة بأنواع الروماتيزم المختلفة، واضطرابات فى الدورة الدموية، وضمور فى الكلى، وضعف كفاءة الجهاز المناعى، والإصابة بمرض سرطان الرئة، والفشل الكبدى والكلوى، إضافة إلى الإصابة بأمراض السرطان. أكثر من 50 مصنعا وراء كارثة تلوث «كتشنر» الدكتور علاء أبو شعيشع، بمستشفى كفر الشيخ، قال إن المصرف شديد التلوث بسبب صرف مخلفات أكثر من 50 مصنعا بداخله، بكميات كبيرة من الرصاص، والنحاس، والكادميوم، والكوبالت، والنيكل، والماغنسيوم، والزرنيخ، وغيرها من المواد السامة التى لا يمكن التخلص منها سواء عن طريق الغلى أو حتى عن طريق التنقية، كما أن عديدا من أبناء القرى الواقعة على امتداد هذا المصرف يقومون بغسل الملابس وأوانى الطعام داخل مياهه، ما يجعل الكارثة مضاعفة على هؤلاء المواطنين، ويجب على الدولة سرعة التحرك لإنقاذ المواطنين من أبناء المحافظة من هذا الخطر، وهو ما يؤكده المهندس محمد زيدان، مدير الثروة السمكية بكفر الشيخ، بقوله إن مصرف كتشنر سبب رئيسى فى هجرة عدد من أسماك بحيرة البرلس بعد التلوث، الذى أصابها بسبب ارتفاع نسبة الأمونيا فى مياه المصرف، الذى يصب جزءا من مياهه فى بحيرة البرلس، وأضاف مدير الثروة السمكية أن الصرف الصحى والزراعى فى مياه البحيرة تسببا فى نمو الغاب والبوص والحشائش داخل البحيرة، مما قلل من مساحة المسطح المائى لها، وأعاق حركة الصيد من صيادى القوارب، كما تسبب الصرف فى البحيرة فى إطمائها، وعلو الأرض بها، مما جعل مياه البحر المتوسط لا تدخل إلى بحيرة البرلس، بالإضافة إلى أنه يكبد الثروة السمكية كل عام خسائر تصل إلى ملايين الجنيهات. أهالى «العباسية» بالمنيا محبوسون المنيا- محمد الزهراوى: أزمة الصرف الصحى أصبحت كابوسا يهدد حياة المواطنين بالمنيا، خصوصا بعد تلف مواسير الصرف بقرية العباسية، ودخول المياه إلى المنازل، وهو ما دفعهم إلى تقديم عديد من الشكاوى إلى المسؤولين بمجلس مدينة مغاغة، إلا أن الأزمة لم تنته ولم يتحرك أحد من المسؤولين لحلها. محمد السيد إسماعيل، أحد أهالى قرية العباسية بالمنيا، قال إنهم يعيشون حياة مأساوية، خصوصا بعد أن أصيبت مواسير الصرف الصحى بالقرية بالتدمير الكامل، وخرجت المياه الملوثة من الأرض، مضيفا أن المياه غمرت عديدا من المنازل، حتى أصبحوا لا يستطيعون الإقامة فى الدور الأول بعد أن امتلأ بمياه الصرف الصحى، وأنهم يخرجون من البيوت عن طريق وضع سلالم خشبية، موضحا أن أغلب الأهالى فقراء ولا يستطيعون تحمل نفقات الإقامة فى منازل أخرى، لافتا إلى أن البعض منهم ترك منزله وأقام فى منزل أحد أقاربه، ومنهم من رضى بالأمر الواقع وقام بالصعود إلى أعلى المنزل عن طريق السلالم الخشبية، إلا أن الأزمة أصبحت كبيرة جدا، خصوصا أن الأطفال الذين يخرجون للعب فى الشارع يقومون بالعبث فى المياه الراكدة، غير مدركين عواقب إصابتهم بالأمراض والأوبئة. أما مرتضى عويس، أحد أهالى القرية، فقال إنهم توجهوا إلى أحد المسؤولين بالمنيا ليطالبوه بحل هذه الأزمة، الذى أكد لهم أنه تم تخصيص 550 ألف جنيه لعمل صرف مغطى لمنطقة شرق المحطة لعدد 7 شوارع بقرية العباسية المتضررة من المياه الجوفية، وقد تم إيداع هذا المبلغ بالبنك منذ شهر رمضان الماضى، وتم وضع مقايسة من إدارة الصرف بالمنيا، ووصل الشيك إلى مدير الصرف بالمنيا، ولم يحدث شىء منذ ذلك الوقت. عويس أضاف أن الأهالى توجهوا إلى رئيس مجلس مدينة مغاغة، الذى أكد لهم أن المشكلة عند مدير الصرف بالمنيا، لافتا إلى أن المدير لم يوافق على إتمام المشروع، مما دفع أهالى قرية العباسية إلى عمل شكوى جماعية وقاموا بتقديمها إلى رئيس مجلس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، ومحافظ المنيا، ورئيس جمعية حقوق الإنسان، ووكيل وزارة الصرف بالمنيا، ووزير البيئة. أهالى المنوفية يستغيثون: الأمراض أمامنا.. والصرف الصحى خلفنا المنوفية- أحمد عبد السميع: عشرات القرى بمحافظة المنوفية تعانى من الحرمان من خدمة الصرف الصحى، ما اضطر الأهالى إلى اللجوء إلى استخدام خزانات بدائية بجوار المنازل لتخزين الصرف بها، وتفريغها كلما امتلأت، وهو ما أدى إلى تسرب المياه إلى أساسات المنازل مهددة بانهيارها، إضافة إلى تسربها إلى المياه الجوفية، وهو ما نتج عنه إصابة العشرات من سكان مركز الباجور بأمراض التيفود. قرى «الباجور» تعانى من الصرف الصحى منذ سنين عديدة، ولا أحد يسأل عنهم، رغم تقديمهم عديدا من الشكاوى للمحافظ شرين فوزى، ولرئيس مجلس المدينة السابق، لكن يبقى الوضع كما هو عليه. قرى ميت الوسطى وميت البيضاء وسبك الضحاك تابعة لمحطة صرف سبك الضحاك، التى ينتظر الأهالى استكمال بنائها وتشغيلها منذ 12 عاما، ولم تستكمل حتى الآن، حيث وصلت القرية إلى حالة سيئة أثرت على جدران البيوت حتى الطابق الثانى، إضافة إلى ارتفاع نسبة المياه الجوفية، التى أصبحت على بعد 130 سم من الأرض. هشام عبد السلام، من أهالى قرية سبك الضحاك، أشار إلى أن قرى ميت الوسطى وسبك الضحاك وميت البيضاء تغرق فى مياه الصرف الصحى، والسبب تأخر بناء المحطة الأم فى سبك الضحاك، التى تم وضع ميزانية لها 4 ملايين جنيه، ولم تكتمل بعد، لافتا إلى أن السبب فى ذلك هو الفساد المستشرى، حيث يقوم المسؤولون بمنح تصريح بالبناء خارج الكردون للوجهاء، وهو ما تسبب فى تأخر بناء المحطة الرئيسية والمحطات الفرعية. عبد السلام أوضح أن المياه الجوفية وصلت إلى مكان قريب من الأرض، مضيفا أن جدران المنازل «نشعت»، وأن هناك بيوتا سقطت من الصرف الصحى، وقد شهدت قرية سبك الضحاك العام الماضى إصابة بعض المواطنين فى حادثة انهيار منزل بسبب الصرف، إضافة إلى إصابة الأهالى. أما قرية شنوفة التابعة لمركز شبين الكوم فيعيش أهلها فى بيئة مرضية، حيث انهارت معظم البيوت المصنوعة من الطوب اللبن بسبب مياه الصرف، أما الشوارع فتحولت إلى برك مياه وطين من أثر الصرف الصحى، كما أن هناك منازل هبطت من تأثير المياه، وهناك بيوت أخرى انهارت وتركها أصحابها، وسكنوا فى منازل بالإيجار، على الرغم من أن دخلهم لا يكفى «العيش الحاف». محمد بدوى، أحد أهالى قرية شنوفة، أوضح أن القرية تعانى من الصرف الصحى منذ سنوات، حتى انهارت بعض المنازل والأخرى مهددة بالانهيار، مضيفا أن معظم المنازل تعوم على مياه الصرف والبيوت كلها «منشعة»، موضحا أن الأهالى يتغلبون على ذلك بكسح الخزانات بشكل يومى. سيدات قرية شنوفة، أكدن أن المياه تغرق المنازل من الداخل، وتدخل لغرف النوم، وأنهن منذ 15 عاما يستغثن بالمسؤولين دون جدوى. الوحدة الصحية بقرية شنوفة لم تسلم هى الأخرى من مشكلة الصرف الصحى، فخزان الوحدة يطفو أكثر من مرة شهريا ويغرق مداخلها، ويضطرون إلى استخدام سيارات «الكسح»، حتى لا تتحول الوحدة الصحية إلى مصدر لانتشار الوباء. قرية شنوان التابعة لمركز أشمون تحلم بالصرف الصحى منذ سنين، وعلى الرغم من بدء تشغيل المنظومة بالقرية فإن أغلب مناطقها لم يدخله الصرف بسبب عبور المواسير الترع، بينما لا يزال سكان الشوارع الضيقة والحارات يعتمدون على سيارات «الكسح»، التى تأتى أكثر من مرة فى الشهر، لتجفف المياه التى تضرب أسفل المنازل وتغلق مداخل البيوت، كما يقوم الأهالى بتصريف مياه الصرف فى الترع، وهو ما يشكل خطرا كبيرا على صحتهم.