عندما نتحدث عن الأدب النسوى فى مصر أو فى العالم العربى، أو فى العالم الإنسانى عموما، تخرج فئة من الكتاب والنقاد، لتنفى أن هناك أدبا نسويا، ويزيد هؤلاء بسؤال شبه بديهى: «وهل هناك فى الأدب نسوية ورجالية؟»، وهذا السؤال يساق بشكله الاستنكارى، لا بالصيغة الاستفهامية، وبالطبع تصاحب السؤال سلسلة من التعليقات الساخرة والماكرة، التى لا تريد سوى التسفيه والتسخيف والتقزيم لكل ما يقال حول هذا الأمر، ويورد الساخرون أسماء كاتبات للنيل منها، وتعليق هذه الأسماء على مشانق البلاغة والمجاز والذكورة السائدة والمتجبرة فى الفن والثقافة والأدب. وكل هذه الضجة لا بد أن تحدث نوعًا من الارتباك والخلط، وتدخل كذلك قضية أخرى فى ماكينات الفرز النقدى والفكرى والسياسى والاجتماعى، وعندما تطرح قضايا المرأة عمومًا يتم الانحياز إلى نموذج ما دون الآخر وفقا لحسابات إما طبقية واجتماعية، وإما لحسابات سياسية، ولا ننسى الانحياز المطلق إلى السيدة هدى شعراوى ابنة محمد سلطان باشا رئيس البرلمان فى عهد مصر الخديوية، وخائن الثورة العرابية، وهو الذى دفع العربان إلى خيانة عرابى، وكان الضابط على خنفس باشا وسيلته فى خداع عرابى، وأصبحت هدى شعراوى هى رائدة الحركة النسوية فى مصر دون منازع، وضاعت أسماء كثيرة مثل نبوية موسى وإستر ويصا واصف التى كتبت كتابًا مهمًا عن مستقبل مصر، وتم ترويج الكاتبة مى زيادة على اعتبار أنها أديبة لا زعيمة نسائية على المستوى الفكرى، وهناك كاتبة مهمة اسمها أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية، وكتبت كتابا يكاد يكون مجهولا وعنوانه «كتاب العائلة»، وفيه من الشعر والنثر والنقد الاجتماعى ما يكتب له الخلود، لولا عمليات التهميش والتجريف التى تحدث عبر الزمان، ومثلما حدث مع كاتبات ورائدات فى الزمن القديم، حدث هذا فى الأزمنة الحديثة، وتعتبر الكاتبة نعمات البحيرى التى رحلت عن عالمنا هذا فى 17 أكتوبر عام 2008، بعد أن قدمت إلى الثقافة والإبداع العربى مجموعات قصصية وروايات ذات أهمية خاصة ومتميزة جدا، وكان هذا التهميش الذى عانت منه نعمات البحيرى دافعًا لتتحمس مع رفيقات لها لإنشاء جماعة أطلقت على نفسها «جماعة البطة السودا»، وكان من أبرز الكاتبات اللاتى أسهمن فى هذه الجماعة الكاتبة صفاء عبد المنعم والكاتبة ابتهال سالم. ولم تنشأ هذه الجماعة فى مواجهة السلطة الذكورية السائدة فى المجتمع الثقافى والسياسى والاقتصاد، بقدر ما كانت تهدف إلى مواجهة اجتماعية ضد القهر والاضطهاد عموما، ولم ترفع هذه الجماعة شعارات برّاقة زائفة، ولكنها سرعان ما اندثرت تحت عجلات التسخيف والمحو والإلغاء التى قامت من أجل مقاومتها، وكانت نعمات نموذجا مثاليا لهذا الإلغاء المتعدد، إذ تعرضت فى حياتها لهذا الأمر بضراوة، عندما أحبّت شاعرًا عراقيًّا، وتزوج منها لتذهب معه إلى بغداد، وهناك عاشت تجربة القهر والسحق كاملة، إذ لم يكن القهر الذكورى هو الفاعل الوحيد فى عملية الإقصاء والإلغاء، ولكن الآلة السياسية القاهرة كانت فاعلة بشكل مذهل، وعملت هذه الآلة على قتل الحب والكرامة والذكورة والأنوثة، ووجدت الزوج يعيش حالة القهر المفروضة عليها، وكانت نعمات قد أصدرت من قبل أولى مجموعاتها القصصية «نصف امرأة» على نفقتها الخاصة، وكانت قد عبرت عن أشكال هذا القهر بشكل واسع، لكنها عندما عادت من العراق كتبت روايتها الملحمية «أشجار قليلة عند المنحنى»، لتسجل وتحلل وتتأمل تجربتها الفريدة فى بغداد، لتصبح هذه الرواية بمثابة مذكرة إدانة للديكتاتورية والديكتاتور فى كل الأزمنة، ليست إدانة لصدام حسين، ولا للزوج الخائب والمسحوق والفاشل تحت سنابك السلطان، ولكنها إدانة للزمن العربى أجمع، هذا الزمن القادر على إطلاق الشعارات دون تحقيقها، زمن الهزائم التراجيدية الذى راح ليتجول بضراوة فى حياة الشعوب منذ أزمنة بعيدة، حتى زمن نعمات البحيرى، ليعيش طويل العمر حتى الآن، لتجنى كل الأجيال العربية مرارة الحنظل الذى زرعته الأنظمة العربية العملاقة والديكتاتورية. عادت نعمات البحيرى لتجد الوطن وقد تفسخت فيه العلاقات الاجتماعية، وكانت تستيقظ صباحا لتذهب يوميا إلى عملها، لتمرّ على عشرات المزالق الاجتماعية، بداية من سائق الميكروباص الذى يتحكم فى مجموع الراكبين، وينهرهم كأنه خاطف لهم، مرورًا بالرؤساء فى العمل الذين يوجهون إليها نظرات الازدراء لأنها امرأة سافرة وحرة، أى أنها فاسقة ومنحلة فى أعرافهم، ولكنهم فى الوقت نفسه يتلمظون على مضغها ومصها وازدرائها، للدرجة التى تدفع أحد العاملين فى المؤسسة التى تعمل بها إلى محاولة التحرش بها، وعند أول حالة انفراد بها، يخرج لها «الشىء» الذى يعتبره علامة للذكورة، ولكن نعمات البحيرى كانت تسجل كل ذلك فى قصصها الممتعة والمؤسفة فى الوقت نفسه، ولم تنج نعمات البحيرى من الاضطهاد الأدبى، فعندما نشرت قصة فى مجلة «إبداع» المصرية لتفضفض قليلا، هاجمها الكاتب علاء الأسوانى فى جريدة «الشعب»، لأنها خرجت عن حدود الأخلاق، وكان ذلك الهجوم مؤثرا جدا على نعمات البحيرى، للدرجة التى زادتها حدة، وظلت نعمات تقاوم بالفن والكتابة، والإبداع للأطفال رغم أنها لم تمر بتجربة الأمومة، حتى أصيبت بمرض السرطان، وراحت لتعيش ملحمة المقاومة المذهلة، والتى سجلتها فى روايتها الرائعة، «يوميات امرأة مشعّة»، لتسرد وتشرح ببطولة فائقة، كل المراحل التى يمر بها مريض السرطان، ولكن نعمات البحيرى رحلت مبكرا، ولكنها تركت أعمالها المذهلة باقية مرفوعة كحالة إدانة فريدة ضد القبح الاجتماعى والإنسانى والسياسى، ولتبقى أعمالها الفنية، والتى لا يضمها مجلد واحد حتى الآن مشرعة فى وجه الزمن العربى الصعب.