امرأة عادية ، موظفة بعمل لم تكن تحبه ، استطاعت أن تتغلب على قهر الوظيفة ورتابتها وتحصل على مكان مميز جدا فى سماء الإبداع بفضل مجهودها الشخصى دون دعم من أى مؤسسة ثقافية حكومية كانت أو خاصة على حد وصفها .. ولدت نعمات البحيرى بحى العباسية البحرية عام 1953 ، تخرجت فى كلية التجارة لتعمل محاسبة بشركة الكهرباء ، جفاف الأرقام ونمطية وظيفتها جعلاها تحلق بخيالها بعيدا نحو عالم الأدب ، لتقرأ بنهم وتكتب بدقة كاميرا تصوير محترفة . كانت الكتابة بالنسبة لها هى المتنفس الوحيد فى عالم يضج بالاحباطات حولها ، تقول عنها : «الكتابة هى الشىء الأكثر بهجة فى هذه الحياة « . استهوتها حياة المهمشين الذين سقطوا سهوا أو عمدا من ذاكرة الوطن ليسكنوا و يعملوا فى أماكن غير آدمية فكتبت عن تفاصيلهم البسيطة فى أغلب أعمالها ، منها مجموعتها القصصية «ارتحالات اللؤلؤ» والتى قدمت فيها نوعية جديدة من الكتابة الأدبية تجمع مابين القصة القصيرة جدا والنثر فى «موتيفات» تشبه لقطات سريعة لأنماط بسيطة من البشر يسكنون مدينة جديدة مازالت تحت الانشاء . تؤكد أن تجربتها مع الوحدة فى مدينة جديدة منحتها نسقا مختلفا فى الكتابة من شأنه أن يجعلها تقبض على وهج التجربة والحياة . من رواياتها « العاشقون « والتى تجعل القارىء يعيش فيها مع أبطالها حيث «بلوك الغجر» بين صفية وعوض ودلال وصلاح عمار خادم المسجد المثقف الذى يقرأ أعمال «إبسن» و«شكسبير» ويعير البطلة كتبه لتتغير شخصيتها بعد قراءة كل كتاب وتتمرد على نمطية الحياة التى تعيشها نساء أسرتها خاضعات لقهر رجالهن فى حين تخاف عليها الجدة العجوز وتصفها بأنها « لن تعمر فى بيت أى رجل » بسبب هذه الكتب التى أفسدت تفكيرها . عانت نعمات البحيرى فى حياتها معاناة على المستوى الأنسانى والأجتماعى ، واجهت اتهامات مسبقة لامرأة تعيش بمفردها دون رجل كأنها جريمتها وحدها ، ولأن اجمل وأصدق الابداع هو من يتشابك مع الحقيقة ، فقد سجلت نعمات البحيرى معاناتها الخاصة فى بعض أعمالها ، فإذا تأملنا روايتها «أشجار قليلة عند المنحنى» سنجد أننا أمام قصة حبها الوحيد ثم زواجها من الشاعر والناقد العراقى الذى قابلته فى احد المحافل الأدبية ، فأحبها وأحبته وأتخذت قرارها الذى رفضته أسرتها وقاطعها أبوها من أجله ، لتسافر خلف الحب إلى العراق وتعيش مع زوجها يوما بيوم بين أصوات قصف البيوت وصرخات القتلى والتهجير من بيت لآخر تفاديا للموت الذى لايخطىء أحدا ، فتصور لنا معاناة الشعب العراقى تحت وطأة حكومته وقتها ، وتقابل هناك أيضا فقراء المصريين العاملين فى وظائف مهينة من أجل إعالة أسرهم فى مصر ، وكأن حظها من الكتابة عن البسطاء يرافقها أينما ذهبت . عندما علمت بمرضها لم تنهزم امامه كما يفعل أغلب المرضى ، لكنها حولت المرض لتجربة جديدة للأبداع . كانت تحكى عن وحدتها فى الفراش الأبيض وهى تتلقى العلاج الكيميائى ثم الأشعاعى ، لكن نفسها حدثتها بأنها عاشت وخبرت حلاوة الحياة من خلال الحب والابداع ، بينما غيرها من المرضى لم تسمح لهم ظروفهم حتى بمثل هذه الافراح الصغيرة ، وكان كتابها الرائع « يوميات أمرأة مشعة » الذى وصفت فيه كل مراحل المرض والعلاج وردود أفعال الأهل والأصدقاء بشكل إبداعى نادر حتى أخر مرحلة فى المرض . لها العديد من الأعمال الأبداعية الأخرى مثل «حكايات المرأة الوحيدة» و«نصف امرأة» و « ضلع أعوج» و«شاى القمر» ، بينما كتبت أيضا للأطفال «النار الطيبة» و»الفتفوتة تغزو السماء» و« وصية الأزهار» . ترجمت بعض أعمالها إلى الفرنسية والأنجليزية والأيطالية والكردية . قال عنها الروائى سيد الوكيل : إنها كاتبة لديها روح نضالية صلبة ، تكتب بين أروقة المستشفيات وتحت مشارط الجراحين لتجعل من سيرتها الذاتية أفقا للسرد . وكتب عنها الناقد الدكتور محمد الرميحى بجريدة الحياة اللندنية يقول : إذا أراد قارىء أن يعرف كيف يعانى الأنسان العربى فى مجتمع يسوده المخاوف والألام والأحباطات فعليه بقراءة رواية نعمات البحيرى « أشجار قليلة عند المنحنى » . بينما كتبت هى فى أخر فصل بكتابها يوميات امرأة مشعة تقول عن نفسها : اسمحى لى يا نفسى القاسية أن ألتمس للجميع أعذارا فرغم كل هذا مازلت أنظر كل صباح لأرى أن خط الحياة فى كفى لا يزال طويلا ، ولم يعد لى إلا الكتابة رياضة روحية ، فى الوقت الذى يسعى فيه كل شىء حولى إلى نسف الأمان والطمأنينة . رحلت نعمات البحيرى يوم الجمعة 17 أكتوبر عام 2008 بعد رحلتها مع المرض وخلفت وراءها أدبا رفيعا يستحق التأمل .