هناك شائعات كثيرة ترافق الكتّاب والأدباء والشعراء سنوات طويلة، وتتحول هذه الشائعات مع مرور الوقت، ومع عدم التدقيق إلى ما يشبه الحقائق، مثل الدعاية التى تقول إن نجيب محفوظ لم يعرفه القرّاء إلا بعد ثورة يوليو، أو أن الدكتور محمد مندور كان مستبعدًا من جنة السلطة الناصرية، أو أن توفيق الحكيم انتقد ثورة يوليو وجمال عبد الناصر فى الستينيات عندما كتب رواية، وهى «بنك القلق»، إلى غير ذلك من ثرثرات سرت هنا وهناك، وتداولتها الأقلام على مدى أزمنة كثيرة. ومن يبحث فى التاريخ الثقافى والسياسى سيكتشف أن الحقيقة تختلف تماما عما تم ترويجه وتسويقه طوال هذا الزمان، ومن بين هذه الشائعات أن الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور، كان قد ناصبَ ثورة يوليو وقائدها العداء، عندما كتب قصيدته الشهيرة «عودة ذى الوجه الكئيب للاستعمار» عام 1954، وتم تفسير القصيدة على أنها ترمز إلى جمال عبد الناصر، ولكن عبد الصبور نفى ذلك تماما فى ما بعد، وعندما نشر الديوان فى طبعته الأولى عام 1957 عن دار الآداب اللبنانية، لم يلتفت النقاد والمتابعون إلى هذا التأويل المفرط، ولكن عندما صدر الديوان فى طبعته الثانية عن دار المعرفة فى مصر عام 1962، جاء خاليا من القصيدة، ولم تشمل الدراسة التى تقدمت القصائد للقاص والشاعر والناقد بدر الديب أى قراءة للقصيدة، وحدث هذا للامتناع عن التعاطى مع الشائعة السائدة، وكان صلاح عبد الصبور فى تلك المرحلة وما قبلها متربعا على عرش الشعر فى مصر، رغم التكريم الرسمى الذى كان يحيط بآخرين مثل عباس العقاد الذى ناصبَ الشعر الجديد ورموزه العداء، وأطلق مدفعيته الثقيلة ضد هذا الشعر وضد مبدعيه. وكان العقاد مقررًا للجنة الشعر، التى ضمت عواجيز الشعر فى مصر -كما يحدث دوما- مثل عزيز أباظة وصالح جودت والعوضى الوكيل وغيرهم، ولكن تكريم صلاح عبد الصبور كان تكريما حقيقيا، وهذا من خلال الدعوات التى توجه إليه من المهرجانات العربية بمعرفة الدولة، وبعيدا عن لجنة الشعر وما يحيط بها، وكذلك من ذيوع كتابات عبد الصبور وصحبه ضد أعضاء هذه اللجنة المتكلسة والعجوز والغريبة عن العصر الذى تعيش فيه، ووفقًا لما كان يكتبه عبد الصبور فى مجلة «روزاليوسف»، سنلاحظ أن كتاباته كانت متناغمة جدا مع خطاب الدولة الرسمى، بعكس ما كان يشاع بأن عبد الصبور كان يكتب شعرا حزينا، ولا يستطيع أن يرى أفراح السد العالى وإنجازات ثورة يوليو وانتصاراتها، وإذا صح أن شعر صلاح كان حزينا ونثره لم يكن كذلك، ستصح المقولة التى أطلقها عليه الناقد الكبير إبراهيم فتحى -ردّ الله غربته- عندما وصفه بقوله: «المكتئب شعرا والمبتسم نثرا»، إذن هذه المقولة تلخص صلاح عبد الصبور فى جميع مراحله، فهو كان متناغما جدا مع التوجهات الرسمية للدولة عندما يكتب مقالاته فى الصحف، ولكنه يشعر بالضيق والضجر وفساد العالم وخراب الذمم وربما العدمية عندما يصاب العالم بالعمى والخرس والصمم، عندما يكتب شعرا أو مسرحا كمسرحية «مأساة الحلاج» أو «الأميرة تنتظر»، ولو راجعنا مقالاته فى تلك المرحلة المبكرة من صعود عبد الصبور، سنلاحظ أنه لم يكن متناغما مع المرحلة فقط، بل كان شبه داعية للأفكار التى تتبناها الدولة، وليس فى ذلك أى تناقض أو شيزوفرينيا، ولكن الشعر يعبر عن لحظة وجودية يعيشها الشاعر بكل عواطفه، ولكن المقال السياسى هو تعبير عن موقف عقلى محض، وفى الحالتين فهو صادق، والتفتيش فى النيات -كما فعل كثيرون- لدى عبد الصبور ونجيب محفوظ دومًا يكون محفوفا بالمزالق، ولكن القراءة الدقيقة للمواقف والكتابات ستكتشف هذا الاتساق الذى يخفى عن المتعجلين والمتربصين. ولم تكن كتابات صلاح عبد الصبور النثرية والسياسية منفصلة عن كونه الشاعر الحزين، وربما رأى البعض أن هناك إفراطا فى الدعاية للدولة، ولكننى أراه بأنه الموقف الوطنى الذى كان يعلنه الشاعر دون حذر على صفحات المجلات والجرائد، هذا الموقف الذى ينفى أنه كان مختلفًا مع سلطة يوليو، وهناك أدلة كثيرة فى تعاقب مراحل عبد الصبور الزمنية والفكرية، ولنأخذ مثالًا على ذلك، المقالات التى كان يكتبها تحت عنوان «فى القومية»، ولنتأمل تلك الكلمات الحادة التى نشرها فى 26 سبتمبر 1960 بمجلة «روزاليوسف»، ضد أحد الغلاة فى كراهية القومية العربية ودعاتها، يكتب صلاح: «كتابان غريبان مسمومان مليئان بالأخطاء والتحامل، صدرا فى إحدى الدول العربية هذه الأيام، اسم أحدهما (صراع ضد الباطل)، والثانى (القومية فى نظر الإسلام)، الكتابان لمؤلف واحد، سقط على هذا البلد من مكان لا يدريه أحد، وانطلق يمارس الكتابة دون علم، ودون أن يقرأ إلا بعض قصاصات الصحف اليومية، وتسلل إلى الحياة العامة إلى أن أصبح يحرر فى إحدى صحف هذا البلد.. ويذيع بعض الأحاديث فى الإذاعة.. ومحور الكتابين الهجوم على القومية العربية وهو أعزل مكشوف الظهر، فاحتمى بكلمة الإسلام، وزعم أنه يدافع عن الدين، الذى أصبحت دعوة القومية العربية أخطر عليه من أعدائه الستة (الروس والأمريكان والفرنسيين والإنجليز واليهود والبراهمة)»!! كما يقول الكاتب، ولا يتركنا عبد الصبور لتفسير الأمر دون أدلة، ولكنه يوضح أن الكاتب يقول هذا الكلام لأن دعوة القومية العربية -فى نظر الكاتب أو الإسلام كما يزعم- تصدر من القاهرة، والقاهرة بلد الكتّاب «الرقعاء» ذوى الأقلام الخبيثة، الذين يهدمون الإسلام، والقاهرة أنعمت على شاعر عربى هو الشاعر القروى -رشيد سليم الخورى- بوسام من أرفع الأوسمة وهو مسيحى، وكذلك يهاجم الكاتب إحسان عبد القدوس وسلامة موسى وأمينة السعيد وأحمد زكى ويوسف السباعى، ويظل يعدد عبد الصبور ما كتبه الكاتب من مساوئ القومية العربية، ويستطرد فى الرد على هذا الكاتب، ويقارعه الحجة بالحجة، وينتصر بقوة للقومية العربية التى تضع الدين الإسلامى وتعاليمه وأمجاده فى أقدس مكان. وعبد الصبور لم يورد على مدى المقال اسم صاحب الكتابين، ولا البلد العربى الذى كان يكتب فيه الكاتب، ولكن الكاتب يدعى محمد أحمد باشميل، وهو كاتب وداعية إسلامى سعودى، وكان يكتب فى الصحف السعودية، عندما كانت القاهرة على خلاف حاد مع الرياض، واستكمل عبد الصبور مقالاته التى تجاوز فيها الدعاية للقومية العربية، بل عمل على الدعاية للأفكار الناصرية بشدة، وهو ما كان مقتنعًا به دوما، وشارك فى ترويج تلك الأفكار على مدى سنوات الستينيات