فى 29 سبتمبر 1961، نشرت الصحف المصرية قرار الرئيس جمال عبد الناصر بعزل الضباط المتمردين فى دمشق، الذين كتبوا شهادة الوفاة الأولى للوحدة المصرية السورية، إذ إن قوات صغيرة -كما قالت الأخبار- من الجيش تحركت من معسكر «قطنة» فى سوريا، واستولت على الإذاعة فى دمشق، وحاصرت مقر القيادة وأذاعت بيانات متتالية يعنى إنهاء الوحدة بين مصر وسوريا، هذا رغم التطمينات الكثيرة التى بذلتها القيادة المصرية نحو ما حدث، وسوف تتخذ القيادة موقفًا حاسمًا تجاه هذه القوات والضباط الذين قادوا هذا التحرك أو التمرد، ورغم أن القيادة كانت تصدّر هذه التطمينات للشعوب العربية، فإن الحدث أثار الهلع بالفعل فى سلطة الوحدة، مما دعا الرئيس جمال عبد الناصر إلى إصدار قرار بعزل الضباط المتمردين فى دمشق، وهذا الحدث جعله يذهب إلى دار الإذاعة المصرية فى بالقاهرة لتوجيه بيان عاجل إلى الشعوب العربية، وتأكيدًا على أهمية الحدث قال عبد الناصر فى مستهل بيانه: «إننى انتقلت إلى الإذاعة لأول مرة لأخاطب الشعب وأكاشفه بآثار هذا العمل الذى يؤثر على وحدتنا الوطنية». وقال الرئيس كذلك بأنه لم ينتقل إلى الإذاعة فى سنة 1956 عندما تعرضت مصر للعدوان البريطانى - الفرنسى - الإسرائيلى، لأن ما حدث اليوم أخطر مما حدث فى 1956، ورغم أن القوات المتمردة أصدرت بيانات تحدثت فيها عن الوحدة والقومية العربية، فإن جمال عبد الناصر استنكر هذه البيانات التى تتناقض مع الفعل الذى قام به هؤلاء المتمردون. وكان قد وصل إلى القاهرة المشير عبد الحكيم عامر، نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، وهو له باع كبير فى أسباب هذا الانفصال، وقد استقبله فى المطار السيد كمال الدين حسين نائبًا عن الرئيس عبد الناصر، وأوضح جمال عبد الناصر كل الملابسات التى صاحبت هذا التمرد، وفند البيانات التى أصدرها المتمردون، ووصفتها الصحافة المصرية بأنها بيانات زائفة، وبعيدًا عن ذلك كتب الكاتب الصحفى ورئيس تحرير جريدة «الجمهورية» موسى صبرى مقالا شديد الحماس، رغم انقلابه فى ما بعد على جمال عبد الناصر وعلى كل ما أتى به من أفعال، كتب يقول: «بالدم، بالروح، بكل كياننا، بكل قوتنا، بكل التراث الخالد الذى نعيشه، يجب أن نحمى وحدتنا، بتاريخ الأجيال، بكل نداءات الثوار، بكل أيامنا وحاضرنا من أجل مستقبلنا، يجب أن نصون وحدتنا، أيدينا حراب، أجسادنا فداء، كلمات نار، حريتنا مقدسة، من أجل وحدتنا، ليلنا نهار، عرقنا غذاء، عملنا وقود، خطونا إلى المذابح، من أجل وحدتنا». هكذا راح موسى صبرى يكتب وينتقى مفردات غليظة، حتى يبدو وكأنه منفعل، ولا يجدى الآن التشكيك فى مصداقية ما كتبه موسى صبرى وآخرون، إذ إن أقلاما كثيرة وشريفة ومحترمة كتبت فى هذا الأمر بأسى شديد، لأن كثيرين كانوا يعيشون بالفعل حلم الوحدة، رغم أن كثيرين كذلك كتبوا ضد هذه الوحدة، أو على الأقل انتقدوا هذا الشكل من الوحدة الاندماجية، ومن الذين كتبوا بتأثر شديد الشاعر والكاتب الصحفى المحترم كامل الشناوى وجاء فى ما كتب: «ارتجف قلبى وأنا أتابع الأحداث التى وقعت فى دمشق، لم أرتجف خوفا على بلد أو فرد، ولكنى ارتجفت إشفاقا على قيم ومبادئ واتجاهات حاول بضعة أفراد أن يتصدوا لمقاومتها، فالحركة التى قام بها الضباط المتمردون ليست إلا مؤامرة مسلحة ضد القومية والعروبة والوحدة والعدالة الاجتماعية، ورفع مستوى العامل والفلاح، وقد استطاع المتآمرون أن يحاصروا دار الإذاعة مقر القيادة، ولكنهم كما قال الرئيس جمال عبد الناصر لم يستطيعوا أن يحاصروا الشعب، وعواطفه، ومشاعره، فخرجت المظاهرات تملأ شوارع دمشق، وحلب واللاذقية تردد بحماسة وحرارة شعارات الجمهورية العربية، الشعارات التى تحولت إلى أعمال وحقائق»، هكذا كتب كامل الشناوى الشاعر الرقيق والصحفى الكبير، والصادق الذى لم تلوثه أى أغراض أو أطماع أو طموحات، لأن حلم الوحدة العربية خايل كثيرا من الكتّاب والشعراء والساسة، رغم الإجراءات الخاطئة التى تمت بها هذه الوحدة، ورغم كثير من التعسفات التى حدثت بها أمور كثيرة آنذاك، وكتب محمد حسنين هيكل سلسلة مقالات فى «الأهرام» تحت عنوان «ما الذى جرى فى سوريا»، وجمع هذه المقالات وصدرت فى كتاب فى 22 فبراير 1962، والذى كتب فى مقدمته: «لم يكن القصد من هذه الأحاديث كلها عن سوريا وعن الذى جرى فيها، أن تكون كتابا، وإنما كانت هذه الأحاديث تفاعلا مع المشهد العنيف الذى شهدته دمشق فجر 28 سبتمبر من سنة 1961، والذى كان من أعقد المواقف فى الدراما الهائلة التى تعانيها الأمة العربية كلها الآن، والتى تكاد أن تشبه فترة مخاض، تمهد وسط الآلام والعذاب لخروج حياة جديدة وبزوغ أمل وليد!»، وعلامة التعجب الأخيرة من وضع هيكل نفسه، هل لم يكن مصدقا ما يكتب، فعلى الرغم من اعترافه بهول ما حدث، واعتباره دراما عنيفة، بل من أعقد أنواع الدراما، فإنه يعد بمستقبل آخر أكثر إشراقا من الحاضر الأليم، ونحن بعد كل هذه السنوات لا نستطيع أن نلوم حسنين هيكل، ولكننا نملك كل أشكال الحرية فى وصف ما كتبه، وما ذهب إليه جميع الكتّاب والشعراء آنذاك، الذين انساقوا خلف سراب غامض، سراب جاء سريعا ومرّ سريعا، ولم يترك سوى الجراح العميقة فى جميع الأطراف، وهناك رواية بديعة للكاتب المصرى الراحل زهير الشايب الذى كان يعمل مدرسًا فى حلب فى تلك المرحلة، وينقل بصدق ما كان الشعب السورى يشعر به تجاه تلك الوحدة، وفى هذا السياق كتب أحمد رشدى صالح مقالًا عنوانه: «سيحمى الشعب جمهوريته واشتراكيته»، وأحمد رشدى صالح بدأ حياته يساريًّا، بل شديد اليسارية، وأسهم فى إصدار أشهر مجلة يسارية فى مصر عام 1945، لكنه ترك كل ذلك، وعمل فى الصحف المصرية، واتجه إلى الأدب والفولكلور، ولم تخرج الأفكار التى جاءت فى هذا المقال عن كل ما كان مطروحا آنذاك، وهو مؤازرة قرارات الرئيس جمال عبد الناصر فى معاقبة هؤلاء المتمردين الذين كتبوا شهادة الوفاة الأولى للجمهورية العربية المتحدة، أما شهادة الوفاة الثانية جاءت عندما ألغى الرئيس التالى محمد أنور السادات شعار «الجمهورية العربية المتحدة»، واستبدل شعار «جمهورية مصر العربية» به، وجاءت هذه التسمية فى ظل عداء عربى مصرى، تسببت فيه اتفاقية كامب ديفيد، والحديث ذو شجون ومتاعب جمة.