المفكر والباحث السياسى والاجتماعى الدكتور أنور عبد الملك، الذى شقّت شهرته الآفاق العالمية، وكانت له نظريات اجتماعية وسياسية يدرسها الطلّاب فى جامعات أوروبا وآسيا جنبا إلى جنب مع نظريات أوجست كونت ودركايم وروجيه جارودى ولوكاتش وإدوارد سعيد على اختلاف مجالاتهم، يكاد يكون تاريخه فى عقد الخمسينيات من القرن العشرين، منفصلا تماما عن تاريخه فى ما بعد ذلك، ولم يكن اختباؤه فى منزل الفنانة سعاد حسنى بواسطة الكاتب عبد الرحمن الخميسى، ثم خروجه من مصر تماما عام 1959 هربا من حملة الاعتقالات الشرسة التى شنّتها السلطات المصرية على اليسار المصرى، إلا خروجا من التاريخ السابق تماما، وبناء تاريخ آخر، ربما لم تتح أعمدة بنائه هنا فى مصر قبل هذا الخروج، ورغم أن الذين عرفوا أنور عبد الملك عن قرب سوف يتعرّفون فيه على أبعاد لا تظهر بوضوح فى تجلياته البحثية والدراسية، مثل شغفه الشديد بالفنون عموما، ويكاد يكون متّيما بالفنانة أم كلثوم، ويسجد أمام ذكرى الفنان مختار صاحب تمثال «نهضة مصر»، ويحفظ أغانى لسيد درويش، ومن الممكن أن يرددها فى حالات انسجامه العالية، ودوما يتذكر يوسف إدريس ككاتب وكصديق، ويكاد يحفظ بعض مقاطع من قصصه القصيرة، ويتحدث دائما عن الناقد الدكتور محمد مندور، وقد جمعهما سجن الأجانب فى أربعينيات القرن الماضى، وبالكاد يستطيع القارئ البعيد لأنور عبد الملك الذى كان يقرأ مقاله الأسبوعى الذى كان ينشره فى صحيفة «الأهرام» قبل رحيله بسنوات، أن يشتم رائحة شخصية عبد الملك الفنية التى ذابت فى الشأن الفكرى العميق والسياسى اليومى، هذه الشخصية الفنية التى تجلّت بقوة فى عقد الخمسينيات بعد نضالات سياسية حادة فى عقد الأربعينيات، حيث كان قد رافق شهدى عطية الشافعى وسعد زهران وغيرهم فى تنظيمات اليسار الشيوعى، ثم انقلبوا على تنظيمهم، وانشقوا عنه صانعين ما صنفه المؤرخون للحركة اليسارية ب«تكتل سيف وسليمان» ويقصد بسيف، شهدى، وب«سليمان» أنور عبد الملك، لكن عبد الملك بعد ثورة يوليو يتجه بكليته إلى الترجمة، ثم إلى الكتابات فى النقد الفنى والأدبى، وظهرت مقالاته النقدية الأولى فى مجلة «الرسالة الجديدة» عن الشاعر الإسبانى لوركا، الذى اغتالته قوى الطغيان فى عهد الديكتاتور فرانكو، وكذلك كتب عن المسرحى والشاعر الألمانى العظيم برتولد بريخت، صاحب أوبرا القروش الثلاثة، وجاليليو.. جاليليو، وكتب قصائد من الشعر أنارت وجدان العالم وقتذاك، ونقلها إلى العربية الدكتور عبد الغفار مكاوى فى ما بعد، ثم قام عبد الملك بالتعريف والدرس النقديين للكتّاب الجزائريين الذين كانوا يكتبون بالفرنسية مثل محمد ديب ومولود فرعون ومولود معمرى، وكانت أرض الجزائر آنذاك يشعلها الثوار كل يوم، وأعتقد أن هذه الدراسات التى كتبها أنور عبد الملك آنذاك كانت الأولى فى الصحافة المصرية، ولم يكن قد كتب عن الكتّاب الجزائريين سوى الدكتور طه حسين عن رواية «الربوة» المنسية عام 1954 فى جريدة «الجمهورية»، وما عدا ذلك ظلّ التعريف بالأدب الجزائرى مقصورا فى مصر حتى أتى عبد الملك، وقام برفع هذا العجز بكتاباته النقدية الراقية، وهناك عشرات المقالات والدراسات الأدبية والفنية التى كتبها فى مجلة «الإذاعة»، إذا كان هو محررها الفنى، الذى سيعود إلى أرشيف المجلة سوف يدرك إلى أى حدّ خسرنا ناقدا فنيا رفيع المستوى، وله فى هذا المجال دراسة رائعة عن فيلم «حسن ونعيمة»، الذى كتبه الشاعر عبد الرحمن الخميسى ووضع موسيقاه التصويرية، وكان قبل ذلك مسلسلا إذاعيا يذاع فى الخامسة والربع من كل يوم، ثم تحول إلى فيلم سينمائى قامت ببطولته سعاد حسنى وماهر العطار، بعد أن رفضت فاتن حمامة القيام ببطولته، والجدير بالذكر أن جلسات كانت تجمعنى مع الراحلين أنور عبد الملك وصلاح عز الدين، مؤسس إذاعة البرنامج الثانى، الذى أصبح اسمه فى ما بعد البرنامج الثقافى، وحكيا لى أن عبد الملك كتب عدة «روايات» للإذاعة، ويقصدان تمثيليات، والذى سيعود إلى أرشيف الإذاعة -إذا كان ذلك ممكنا- سيجد كنوزا من هذه التمثيليات لأنور عبد الملك وعبد الرحمن بدوى وحسن الساعاتى، وكل أساتذة هذا الزمان، والجدير بالذكر أن أنور عبد الملك كان يكتب بابا فى غاية الأهمية تحت عنوان «ثقافة العالم بين يديك» فى صحيفة «المساء»، لينقل إلينا القضايا الأدبية والثقافية والفنية التى تحدث فى العالم الغربى، وفى 3 سبتمبر عام 1958 كتب عبد الملك تحت عنوان «مستقبل الكتاب فى إنجلترا»، وأثار فى هذا قضايا ما زالت تثار حتى الآن، وهى القضايا التى تتعلق بغزو الصورة وخطورتها على مستقبل الكتاب، إذ أثار الملحق الأدبى لمجلة «التايمز» هذه القضايا، وجاء ذلك فى 40 صفحة تحت عنوان: «الكتب فى عالم متغير»، ومن القضايا المثارة فى هذا الملحق أزمة النشر ومستقبل الكتاب فى إنجلترا، وكتب فى هذه القضايا 36 شخصا من أعلام الكتّاب والنقاد والناشرين، وبحثوا فى أصل هذه الأزمات، وقدموا حلولا يتكاتف الجميع من أجل الوصول إليها، واعتبروا أن الكتاب الأدبى تتراجع سوقه أمام تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولذلك فعلى الأديب أن يواجه مطالب العصر الصناعى العلمى، ويكون ذلك بأن يتعلم ويتثقف، لا كعالم متخصص، لكن بالقدر الذى يتيح له أن يبنى عالمه الأدبى فى ظل هذا العالم المتغير، الذى يتقدم يوما بعد يوم، حتى يظل الكتاب الأدبى وسيلة اتصال تنافس الكتاب العلمى كوسيلة اتصال عالية التداول، ويستطرد عبد الملك فى طرح ما جاء فى المجلة، وفى الحقيقة كانت كل مقالات عبد الملك فى صحيفة «المساء» وغيرها، تنقل ما يحدث فى العالم الغربى فى تلك الفترة، من فنون وثقافة وأدب، وهذه المقالات بالفعل تقدم بانوراما واسعة وعميقة للثقافة الغربية فى تلك المرحلة، وتكشف عن جانب مجهول تماما لمفكر خطفته انشغالات الفكر والسياسة والدراسات، وأغلقت بابا واسعا كنا نحتاج إليه من مثقف وكاتب موسوعى كبير.