كبراءة طفل يسعد عندما يهاتف أباه، وكزهرة جميلة تتمايل عندما يهب عليها نسيم الصباح، هكذا يبدو وجه أمي متهللاً عندما ألوح عليها من بعيد في شارع القرية تحوطني عينيها بالحنان والرعاية، تسارع خطواتي نحوها، أرم ما أحمل من متاع، وأرتمي في حضنها، أقبّل وجنتيها، أذوب تقبيلاً وسؤالاً عن حالها، ترمقني بنظرة رضى وحنان "بخير ياولدي.. تعالى ليك وحشة ياضنايا". على باب قريتنا، مبنى قديم من الطوب اللّبن، تفترش عتبته، ترمق الناظرين، تداعب أحفادها، ترمقهم بنظرة حنو، تتأملني عندما أسارع الخُطى نحوهم، قائلة جملتها التي سمعت حروفها عند كل زيارة "عقبال أولاك ياولدي.. مش هتريح أمك". أسال عن "أبويا"، لم تغيّرني معالم وشوارع القاهرة من حروفه الجميلة، ترد" في الغيط"، أجهزلك حاجة تاكلها، ياريت ياحاجة، وحشني أكل ايديكِ، تتوكأ على يديها قائلة :" يعني لو زمانك مجوز، مش كنت رحمة أمك"، أداعبها :" ياحاجة انتِ الخير والبركة، حتى لو اجوزت، مش هاكل إلاّ من ايديكِ، ترمقني بعيون باسمة :" ياواد بطل بكش، ده انته لما يرزقك ببنت الحلال مش هتنسى امك وأبوك بس، انت هتنسى نفسك، تختفي عن نظري وأسمع صوتها من داخل المطبخ :" أقولك على حاجة، ايه رأيك في بنت فلان، أرد، حلوة ياحاجة، هااا انتِ رأيك إيه؟ عندما يأتيها سؤالي تترك ما في أيديها من طعام، وتتقف أمامي والعرق يتصبب منها :" يعني ناوي ولا هتتعب قلب أمك، ياولدي عايزة أشوفلك ولد قبل ما أموت"، أقف أقبل يديها ياحاجة ربنا يباركلي في عمرك، بلاش تقولي كده، سيبيها لله، تعود إلى حيث جاءت، والله ما حدش منشف ريقي ومسهرني إلاّ أنت!. "البنات مالية البلد يامصطفى، إيه اللي مأخّرك لحد دلوقت"، تستقبلني بها أختي، متسائلة :"بنات مصر ملقتش فيهم حد" أرد ضاحكًا:" سأتزوج أجنبية عشان أطير من أم البلد دي، مش كفاية الكهرباء"، يضحك الجميع في الوقت الذي يصادف فيه دخول أبي الذي ياخدني بالأحضان غير مشترك في جملة الأسئلة عن عروسة المستقبل، يسأل أمي:" جهّزتي أكل لابنك، ترد محملة ايّاه بطلبات العزومة وكأنني غريب على البيت أو ضيف حلّ عليهم بعد طول غياب، يبتسم أبويا:" أمك عمّاله تكلفني بطلبات، ينفع كده؟ ابتسم :" أمّي دي عسل، لو عايز تجوّز تاني مفيش مانع"، ينظر ضاحكًا :"وأنا موافق، شوفلي حاجة عندك في مصر"، يضحك الجميع وتحتضن أخواتي البنات أمي مطيّبين خاطرها :" بس سيبيه يعملها واحنا نعرف نعمل إيه معاه". أن يكون معك أم وأب، فأنت أسعد الناس، فلا نعلم بقيمتهما إلا عندما يرحل أحدهما عن الآخر، أو يرحلا معًا تاركين خلفهما عذابات السنين نعانيها، فالأم والأب كشراعي سفينة في أمواج الدنيا، وعندما يتهاوي أحدهما لا نضمن عاقبة ما نواجهه من متاعب في دنيا الشر فيها يفرش اجنحته ويطوي الأرض طولاً وعرضًا ليصطاد منها مكسوري الجناح. فأمي لا تحبني، بل تعشقني، مردُّ ذلك لا أعلمه، هل كوني آخر العنقود ممكن، أم أنني لم أرتبط حتى الآن ولذا تهتم بشأني وارد، أم تتمنى رؤية حفيدها كما تتمني قد يكون، أم هي صفة خاصة في كل أم، أم كل ماسبق. جويدة صدق عندما خطّ حروفه على أمه قائلاً: في الأفق يبدو وجه أمي كلما انطلق المؤذن بالأذان كم كنت ألمحها إذا اجتمعت علي رأسي حشود الظلم والطغيان كانت تلم شتات أيامي إذا التفت علي عنقي حبال اليأس والأحزان تمتد لي يدها بطول الأرض.. تنقذني من الطوفان وتصيح يا الله أنت الحافظ الباقي وكل الخلق ياربي إلي النسيان.