وثمة رواية أصوات أخرى هى «العائش فى الحقيقة»، تدور أحداثها حول حياة «إخناتون» وأفكاره، ولنا أن نتساءل: لماذا يعود محفوظ مرة أخرى إلى الحقبة الفرعونية؟ لعله حديث الدين وعلاقته بالدنيا، فهذه الرواية تعالج ما حدث فى مصر من صحوة دينية غيرت كثيرا من أفكار الناس وطريقة حياتهم. كما أنها تعيد طرح أسئلة كثيرة حول عصر كل من عبد الناصر والسادات، وتتساءل الرواية: هل حقا يمكن لرجل واحد أن يدمر أمة؟ ورواية «يوم قتل الزعيم» تنتمى إلى روايات الأصوات، لكن الأصوات هنا ثلاثة فقط! وكل منهم يتحدث مرات عدة، فالشخصية الأولى «محتشمى زايد»، هى شخصية الجد الذى يبدأ الرواية وينهيها، فى ثمانية فصول، والشخصية الثانية «علوان فواز محتشمى»، هى شخصية الحفيد، الذى يتحدث فى سبعة فصول، والشخصية الأخيرة «راندة سليمان مبارك» حبيبة علوان وخطيبته منذ أحد عشر عاما، التى تتكلم طوال سبعة فصول. فى هذه الرواية علاقة رائعة بين الجد والحفيد، وتفاصيل صراعات الحياة بالنسبة إلى الجيل الجديد، وصعوبات الزواج، حتى إن الجد يفكّر فى أن موته قد يحل مشكلة الحفيد إذ سيجد عندئذ حجرة خالية يتزوج فيها بحبيبته! أما رواية «حديث الصباح والمساء» فرواية أجيال كثيرة الشخصيات جدا، إذ يبلغ عدد المذكور أسماؤهم كعناوين 67، مرتَّبة حسب الترتيب الألفبائى، وبغض النظر عن تاريخ ميلاد كل شخصية، ومكانها ضمن مسلسل أحداث الرواية، ولذلك قد يجد القارئ بعض الصعوبة فى البداية، ولكنه سيفهم طبيعة الشخصيات التى تقدم له واحدة وراء أخرى، ثم سيتمكن بعد ذلك من ربط الأحداث بعضها ببعض، فتتضح له الصورة كاملة شيئا فشيئا، ويتمتع بإعادة بناء تفاصيل أحداث الرواية من جديد فى ذهنه. وقد يتمتع بها فى قراءة جديدة، تبدو فيها شبكة العلاقات الإنسانية وخطوط سير الأحداث أكثر وضوحا وروعة وجمالا. أما آخر روايات محفوظ فهى «قشتمر»، وهى تمثل علامة مهمة فى إنتاجه، إذ تعبّر عن روح الصداقة وعمق المحبة التى يحملها الأستاذ تجاه أصدقائه ومعهم الناس جميعا. وقد ذكر الأستاذ أنه كتب هذه الرواية تعبيرا عن شعوره العميق برحيل صديقه صلاح جاهين. فأحداث الرواية تدور حول معانى الصداقة، والحب التى تجمع خمسة من أصدقاء الطفولة، الذين حافظوا على توثيق روابط المودة بينهم على مدى سنوات عمرهم كله، إذ عاشوا معا مختلف أحداث الوطن السياسية، وتقلب أوضاع المجتمع الاقتصادية، وتغير منظومة الأفكار الاجتماعية. فيقول الراوى: «وظل قشتمر أحب الأماكن إلينا بل هو المأوى الذى نخلو فيه إلى أنفسنا ونتبادل عواطف المودة». فالسنوات تفر، والعقود تمر، بينما «المودة التى بينهم صافية لا تشوبها شائبة»، وهذا هو روح نجيب محفوظ المفجر لطاقات الحب داخل قلوب أصدقائه. وما هذه السلسلة من المقالات إلا تحية لروح هذا المبدع العظيم، مع خالص حبى، وعظيم امتنانى.