لا يختلف الوجود الروائي لأنور السادات، في عالم نجيب محفوظ، عن الوجود الروائي لجمال عبدالناصر، فكلاهما لا يظهر بوضوح، وبحرية أيضا، إلا بعد رحيله وزوال حكمه، وكلاهما تنقسم حولهما الآراء تبعا لطبيعة الشخصيات، وكلاهما يصعب تحديد موقف صارم ومحدد لنجيب محفوظ نفسه تجاهه! يتراوح استقبال الشعب للرئيس السادات، في بداية خلافته لعبدالناصر، بين الترحيب والاستهانة. صادق صفوان، في «قشتمر»، التاجر الذي لا يخفي فرحته لموت عبدالناصر، يقول: «أنا متفائل بالرئيس الجديد». والموقف التفاؤلي نفسه تتخذه سنية المهدي، في «الباقي من الزمن ساعة»، علي الرغم من بكائها الحار علي عبدالناصر، فهي تقول لابنتها: «سيجيء الفرج علي يد الرئيس الجديد». أما الاستهانة فتتجلي في موقف الماركسي عزيز صفوت، في الرواية نفسها، فهو يقول بثقة: «عهد السادات قصير، أما المستقبل فلرجالنا». وبالنسبة للصراع علي السلطة، الذي تفجر في مايو 1971 أو ما يسميه السادات بالثورة ضد مراكز القوي، فإن نجيب محفوظ يقدم تعليقا يسعي إلي الموضوعية، لكنه لا يخلو من التعاطف: «وتتأزم الأمور وتتعقد، ولكنها تنتهي بنهاية غير متوقعة فينتصر الرئيس الجديد علي أعدائه انتصارا مبينا، وبالانتصار تلوح بشائر زعامة جديدة، ومولد شعبية جديدة متعطشة للانتصار ومتطلعة للأمان وتبدأ دورة جديدة للبحث عن مخرج من الأزمات المتراكمة. باستقرار الأمور لصالح السادات، ينقسم شخوص نجيب محفوظ إلي مؤيدين ومعارضين: سنية المهدي وحدها، كبيرة القلب كأنها مصر، هي التي تحب الزعيمين «السلف والخلف، وتقول: «لكل منهما مزاياه وأياديه، أما الأخطاء فسبحان من له الكمال وحده». باستثناء سنية، فإن تأييد السادات يعني ضمنا معاداة عبدالناصر وعصره، والعكس صحيح، بل إن الروائي الكبير يضع علي لسان عبدالناصر، في محاكمات «أمام العرش»، عبارة توحي بأن السادات مسئول عن الحملة الموجهة ضده. - كراهية وعداء طاهر عبيد، الشاعر المولع بعبدالناصر وعصره، في «قشتمر»، يتخذ موقفا سلبيا لا مهادنة فيه تجاه السادات، فقد وجد نفسه تحت حكم الزعيم الثاني: «في عالم غريب كريه لا يحتمل، وأساء به الظن منذ أول ساعة وعده عميلا لجميع القوي الرجعية في الداخل والخارج. وما لبث أن عزل من رئاسة تحرير الفكر دون أن يفصل من المجلة، وامتنع عن الكتابة فلم يهتم به أحد، ولم يظهر له أي أثر في أي جهاز من أجهزة الإعلام، ولما حدث النصر العظيم تلقاه بفتور غريب، وراح يرجع جذوره إلي البطل الراحل». وإذا كان الماركسي عزيز صفوت، في «الباقي من الزمن ساعة»، قد استهان بالسادات في بداية حكمه، فإنه سرعان ما يقول بعد استقرار النظام وتنامي قوته: «إنه مقلب لم يجر لنا في خاطر، وهو دائب علي مغازلة الرجعية العربية والغربية»!! ويستقبل قدري عامر، في «حديث الصباح والمساء»، وهو محسوب علي اليسار أيضا، نصر السادس من أكتوبر بسخط لم يستطع أن يخفيه: «وبذل أقصي ما عنده من منطق ومعلومات ليفرغه من مضمونه أو في تصويره في صورة التمثيلية المفتعلة، وقال لنفسه: انتصار البورجوازية يعني انتصار الرجعية! ومن أجل ذلك ناصب السادات العداء منذ تجلي للعين خطه السياسي، وأضمر له الكره حيا وقتيلا، رغم إقبال الثراء عليه بغير حساب في عصر انفتاحه». - لعنة الانفتاح تمثل سياسة الانفتاح الاقتصادي، بتأثيرها السلبي المباشر علي حيوات الغالبية العظمي من المصريين، نقطة ضعف خطيرة في فترة حكم السادات، وفي حوار منيرة، ذات العواطف الناصرية، مع شقيقها محمد، الإخواني المتحمس للسادات، تقول: اعرفوا أيضا الانفتاح.. فتتساءل الأم: - ماله الانفتاح-.. حتي روسيا أخذت به.. - ولكنه سيعني عندنا الغلاء والخراب.. وعند تلك النقطة غير محمد شراعه قائلا: - نحن نوافق عليه ضمن خطة الإنتاج.. فتساءلت منيرة: - وهل توافق علي ذلك الصقور المتحفزة- ولا يستطيع نجيب محفوظ في سرده أن يهمل خطورة الانفتاح: «ورسخ الغلاء منذرا بالقلق، وانتشر العرب في الأحياء كالماء والهواء، وجاء الغلاء بالوحشية، أما العرب فجاءوا بالكرم تياهين بموقفهم القومي في البترول ولكنهم نفخوا في الغلاء من حيث لا يقصدون». السادات نفسه، في محاكمته «أمام العرش»، لا يقدم منطقا وجيها للدفاع عن الانفتاح، فإذ يقول له عبدالناصر: - واندلقت في الانفتاح حتي أغرقت البلاد في موجة غلاء وفساد، وبقدر ما كان عهدي أمانا للفقراء كان عهدك أمانا للأغنياء واللصوص. يأتي الرد هزيلا: - لقد عملت لخير مصر فوثب الانتهازيون من وراء ظهري! وهو اعتراف لا دفاع! وإذا كانت بعض قصص نجيب محفوظ القصيرة قد عبرت عن تأثير الانفتاح الاقتصادي علي الواقع المصري بصدق وتوهج، ومن ذلك ما نجده في قصتي «أهل القمة»، و«الحب فوق هضبة الهرم» فإن رواية «يوم قتل الزعيم» تجسد مأساة الانفتاح الساداتي من خلال شخصية علوان فواز محتشمي، وهو عاشق مفلس عاجز عن الزواج من حبيبته لأسباب اقتصادية انفتاحية! - هتلر وشابلن علوان لا يطيق السادات وعهده، ويبدو دائم الحنين لعبدالناصر، وفي لقاء يجمعه مع حبيبته رندة، يتنافسان في التعبير عن كراهيتهما للسادات! فإذ يقول علوان: - فلنتسل بحصر أعدائنا. تدخل رندة اللعبة قائلة: - غول الانفتاح واللصوص الأماثل. - هل ينفعنا قتل مليون- - فد ينفعنا قتل واحد فقط! وتنهال شتائم علوان وأبناء جيله علي السادات وسياسته: «مقهي ريش منقذ من ضجر الوحدة. اجلس واطلب القهوة وأرهف السمع هنا معبد تقدم به القرابين إلي البطل الراحل الذي أصبح رمزا للآمال الضائعة. آمال الفقراء والمعزولين، هنا أيضا تنقض شلالات السخط علي بطل النصر والسلام النصر يتكشف عن لعبة والسلام عن تسليم. ويجسد علوان طبيعة الفساد المنتشر في قوله: «الرشوة عيني عينك وبأعلي صوت الاستيلاء علي الأراضي شيخ العصابة له أوراد والفتنة الطائفية من يوقظها- مجلس الشعب كان مكانا للرقص فأصبح مكانا للغناء، الاستيراد بدون تحويل عملة. أنواع الجبن، البنوك الجديدة. بكم البيضة اليوم- ما هو إلا ممثل فاشل.. وضرب المفاعل العراقي- صديقي بيجين - صديقي كيسنجر.. الزي زي هتلر والفعل شارلي شابلن»! تأييد السادات والدفاع عنه، يمثله الإخوان المسلمون وأثرياء سياسة الانفتاح الاقتصادي. المحامي محمد حامد برهان، في «الباقي من الزمن ساعة»، وهو المعبر الواضح عن موقف الإخوان المسلمين من السادات. -- وتبقي مسألتان علي درجة عالية من الأهمية بالنسبة للسادات وموقف نجيب محفوظ منه: المسألة الأولي تتعلق بالسلام، والثانية بحادث الاغتيال الذي وضع نهاية مأساوية قاسية لحكم السادات. - مبادرة السلام لم تكن مبادرة السلام بعيدة عن الظروف الداخلية التي تمر بها مصر، وفي «الباقي من الزمن ساعة»، يقدم نجيب محفوظ تمهيدا ماديا داخليا للمبادرة: «وارتفعت الأصوات المعارضة ولكن الأسعار ارتفعت أكثر وامتلأت الأسواق بالسلع المستوردة، استهلاكية وكمالية، وتحدث المرهقون عن طبقة جديدة من أصحاب الملايين، كالوباء، يعرف بآثاره وعواقبه ولا تري ميكروباته بالعين المجردة. وإذا بالسماء تمطر دهشة أنست كل ذي هم همه، دهشة أسطورية لم يتصورها خيال من قبل، دهشة تتميز بخواص الخوارق وسجايا المعجزات ونشوة الأساطير، عندما عرف وأعلن أن أنور السادات سيهبط بشخصه في أرض إسرائيل! وتجمع كثيرون من سكان الأرض أمام التليفزيون ليشاهدوا بأعينهم كيف تتحدي الإرادة البشرية مجري التاريخ لتحوله عن مساره الحتمي عنوة وبلا سلاح، وتجلي اللقاء بين أعداء الأمس، تصافحت الأيدي، تبودلت الضحكات، والخطب، والصلوات، وتدفق ماء عذب من شقوق صخر صلد لتصب في مجري مليء بالحصي». لغة نجيب محفوظ مليئة بالإعجاب والتأييد والتعاطف، وإذا كانت الدهشة تقود كثيرا من شخوصه السياسيين إلي المعارضة، فإنها تفضي به إلي تأمل إيجابي يري «الفعل الخارق» وليس «العمل الخائن وبصرف النظر عن القوي السياسية المعارضة لسلام السادات، من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، فإن الأغلبية من غير المبالين بالسياسة كانوا معه، أو كما تقول سنية المهدي: «رأيت استقبالهم للرئيس عند عودته فلم أدهش يا ابني، كان الاستقبال مبايعة لشخصه من جديد ومباركة لخطواته، هم الذين يموتون عند الحرب ويجوعون عند اللا سلم واللا حرب، ورأيهم رأي الفطرة السليمة بعيدا عن شرك المذاهب». ويعبر أخناتون عن هذا في «أمام العرش»فهو يخاطب الرئيس السادات قائلا: «أحييك كداعية من دعاة السلام ولا أدهش لاتهام خصومك لك بالخيانة فقد تلقيت منهم نفس التهمة لذات السبب». وعندما يهاجم عبدالناصر سلام السادات بقوله: ثم نزلت عن كل شيء في سبيل سلام مهين فطعنت وحدة العرب طعنة قاتلة وقضيت علي مصر بالانعزال والغربة. يرد السادات: - لقد ورثت عنك وطنا يترنح علي هاوية الفناء، ولم يمد لي العرب يد عون صادقة، ووضح لي أنهم لا يرغبون في موتنا كما لا يرغبون في قوتنا كي نظل راكعين تحت رحمتهم، فلم أتردد في اتخاذ قراري». ويبدو انحياز محفوظ للسلام في ختام المحاكمة، عندما ينتقي مجموعة من الزعماء ويضع علي لسان كل منهم عبارة تمثل خلاصة تجربته، فهو يؤكد من خلال السادات أهمية أن يكون الهدف هو: «الحضارة والسلام». - مأساة المنصة بالنسبة لاغتيال السادات فإن حلم موته أو قتله يتكرر كثيرا قبل حادث المنصة، وهو ما يعبر عن موقف سياسي سلبي لا مثيل له عند غيره من الزعماء في عالم نجيب محفوظ ولا تنجو ديمقراطية السادات العرجاء، وقراراته العقيمة في سبتمبر ,1981 من هجوم عنيف لقد دفع السادات ثمنا باهظا للديمقراطية المشوهة المبتورة التي أرادها، ولإيمانه القديم، النظري والعلمي، بالاغتيال السياسي. في «أمام العرش»، يقول الزعيم مصطفي النحاس للسادات: حاولت اغتيالي وكدت تنجح لولا العناية الإلهية، ثم فقدت حياتك نتيجة للاغتيال»، ويشن هجوما عنيفا علي ديمقراطية السادات: «أنك تريد حكما ديمقراطيا تمارس علي رأس سلطاتك الديكتاتورية»، ثم يعيب عليه قرارات سبتمبر الطائشة: «ألقيت بالجميع في السجون فأغضبت المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين، وانتهي الأمر بمأساة المنصة». في «يوم قتل الزعيم»، يقدم نجيب محفوظ حادث المنصة من منظورين مختلفين، فالجد محتشمي زايد يعلق بقوله: «اللهم حوالينا، لا علينا، أما الحفيد علوان فتنتابه أحاسيس أقرب إلي الفرحة والشماتة، وقد اندفع - في اليوم نفسه - إلي ارتكاب جريمة قتل موازية لحادث المنصة، ولم يكن القتل غير المتعمد ل«أنور» علام، عدوه الذاتي، في مقابل «أنور» السادات كعدو موضوعي، نهاية للشر والفساد أو بداية للخير والاستقرار، وبالمنطق نفسه، فإن اغتيال السادات لا يعني نهاية الشر، بل لعل في الاغتيال، بكل ما يترتب عليه من تداعيات، ما يصنع المزيد من المعاناة. يتجلي موقف نجيب عبر التعليق المشوب بالخوف، الذي يكتبه في «قشتمر»: و«يوم قتل الزعيم فزعنا وتساءلنا عما يخبئه لنا الغد». هل تصلح كلمة إيزيس، في نهاية محاكمة السادات «أمام العرش»، للتعبير عن موقف نجيب ورؤيته- إنها تقول: «بفضل هذا الابن ردت الروح إلي الوطن، واستردت مصر استقلالها الكامل كما كان قبل الغزو الفارسي، وقد أخطأ كما أخطأ سواه، وأصاب أفضل مما أصاب كثيرون».