عُشَّاق السماوات فى قلب الصحراء.. بين الجبال والكثبان الرملية، وعلى أضواء ضئيلة تكشف موطئ أقدامهم لا أكثر، تسير قافلة ضئيلة العدد، يسترشد أفرادها بالنجوم باهرة الحسن المنتشرة فى السماء دون أن يحجبها تلوُّث ضوئى، أو تشوشها أضواء باردة لمدن لم يعد ساكنوها يفكِّرون إلا فى العمل، وقضاء يوم آخر فى حياة صماء بلا روح. يصعدون الجبال حتى القمم، ثم يتوقفون ليملؤوا صدورهم بأنقى هواء عرفوه منذ ولدوا، ويرفعون أبصارهم إلى الفضاء.. إلى أعلى ما يمكنهم رؤيته.. لا يهم إن كان قيظ الصيف يلفّهم أم ثلج الشتاء، المهم أن النجوم هناك فى أبهى حلة، وذراع مجرتنا الجميلة يحوط كوكبنا البائس الصغير فى حنوٍّ، يغدق عليه من فيض جمال الله. إنهم دراويش الطبيعة، عُشَّاق السموات، هواة الرصد الفلكى، المتعبدون لله بالترحال فى أرضه وتأمّل بديع صنعه، بعيدًا عن جفاء المدن، والأضواء التى تحجب كل ذاك الجمال. جمال لا يعرفه أحد «الرصد الفلكى» واحدة من أجمل الهوايات غير الشائعة، ولا تتطلَّب معرفة هائلة بالفلك، ولا دراسة متخصصة للفيزياء وعلوم الفضاء، وإنما تتطلب نفسًا متطلعة إلى الجمال، تبحث عن الاستمتاع بالطبيعة والحياة.. ومن الرصد الفلكى تتفرَّع عدة أنشطة، مثل السير بين الجبال Hiking، وتسلُّقها، والتصوير الفوتوغرافى، والذى يمثِّل ركنًا أساسيًّا فى تلك الهواية، سواء كان صاحبها محترفًا خصص جزءًا من مهارته لالتقاط أبدع الصور لأجرام السماء، فى ما يعرف بالتصوير الفلكى أو الAstrophotography، أو هاويًا يرغب فى تسجيل لحظة رؤيته الأولى لحلقات كوكب زحل، أو أقمار المشترى، أو المريخ الأحمر، أو البدر المتألق الذى يحتل عدسة تليسكوبه، وكأنما يستقر بين يديه، كماسة فضية برَّاقة. بداية الرحلة يبدأ هواة الرصد الفلكى مشوارهم عادة بالبحث عن تليسكوبات تمكّنهم من اختراق حاجز التلوّث الضوئى الذى يغشى السماء، وأول الأماكن التى ترعى هذه الهواية هى (جمعية الدكتور مصطفى محمود الفلكية)، والتى تنظّم لقاءات أسبوعيّة للرصد الفلكى، وتسمح لعُشَّاق السموات بالنظر عبر التليسكوبات لتتبع الأجرام السماوية، وإيصال كاميراتهم بالعدسة، ليسجل كل هاوٍ ما يراه فوتوغرافيًّا. ثم يتدرَّج الهواة حتى يبحثون عن التليسكوبات لبدء رحلاتهم الخاصة لاستكشاف السماء، ولا يطول سعيهم لأن مصنع «فوياجر للتليسكوبات»، والوحيد من نوعه فى الشرق الأوسط، يقع فى طنطا، ويوفِّر مجموعة كبيرة جدًّا من التليسكوبات للمبتدئين والمتخصصين. ثم تأتى المرحلة النهائية، إذ يبدؤون رحلاتهم إلى الصحراء، ويخرجون إلى الطبيعة فى الواحات والجبال. 315 يومًا صافيًا تتمتع بها مصر خلال العام.. وتستطيع أن تكون قِبلة السياحة الفلكية فى العالم السياحة الفلكية.. متعة جارفة فى مصر نتمتع بنعم إلهية كبرى، مثل الجو الجاف الذى لا يهدّد الأجهزة العلمية، والسماء الصافية لأيام يتراوح عددها بين 305 و315 يومًا فى السنة، بالإضافة إلى الجبال المرتفعة والتى تبلغ 2200 متر فى سيناء، كل هذا يجعل الرصد الفلكى مغامرة غاية فى الإمتاع.. يقول عمرو عبد الوهاب إن هذه المميزات تؤهلنا لتدشين ما يُسمى ب(السياحة الفلكية)، لجذب السياح لزيارة معالمنا الأثرية نهارًا، والانطلاق إلى الصحراء لرصد الأجرام السماوية ليلاً.. وفى السنوات القليلة الماضية جاء كثير من المصورين الفلكيين إلى مصر، والتقطوا صورًا عديدة فازت بجوائز دولية كبرى، وفى هذا خير دعاية لنا. الطريق إلى الانطلاق إن أغلب دارسى علوم الفضاء هاجروا إلى الخارج، للقيود الكثيرة التى تكبّل المجال بمصر، فتلقفتهم الجهات العلمية الأجنبية بالترحاب والوظائف المرموقة فى أرقى الجامعات، ومن المهم رفع القيود عن استيراد الأجهزة العلمية، واستغلال ما يتمتع به وطننا من مميزات، لأنه سينعكس على علوم أخرى كالطب والهندسة.. ولا ننسى أن مصر تمتلك مرصد حلوان، أحد أقدم المراصد الفلكية فى الوطن العربى.. ومرصد القطامية الفلكى، الذى شارك فى مراقبة وتتبع رحلة هبوط الإنسان لأول مرة على سطح القمر، بالتنسيق مع «ناسا»، كل هذه أشياء تصب فى صالح الطلبة المصريين. طريق مفتوح لاستكشاف السماوات الجهة الوحيدة المهتمة بتنظيم رحلات الرصد الفلكى هى صفحة «Astrotrips» على «الفيسبوك»، وتتميز بتكاليف معقولة تتراوح بين 150 جنيهًا لليوم الواحد، و800 جنيه للرحلات التى تستمر لأكثر من 3 أيام، شاملة الانتقالات والإقامة والطعام، وأدلة بدو على دراية كاملة بدروب الجبال والصحراء.. وتشمل برامج الرحلة أنشطة مختلفة، كاستعمال تليسكوبات مرصد القطامية الفلكى، أو تسلُّق جبال سيناء، واستعمال التليسكوبات فى الصحراء، ورصد الأحداث الفلكية الكبرى، مثل ظاهرة Super Moon والخسوف والكسوف واقتراب المريخ من الأرض ورصد الشهب وكوكب زحل وحلقاته، بالإضافة إلى الأحداث التى تُرى كل حين، مثل رصد ذراع المجرة فى الصحراء، والذى يظهر بوضوح للعين المجردة خلال الصيف، وبالتحديد فى أواخر يوليو وحتى منتصف أغسطس من كل عام.. كما تضم برامج هذه الرحلات جزءًا صحيًّا مثل الاستمتاع بمياه الينابيع الطبيعية أعلى الجبال وفى قلب الصحراء، بالإضافة إلى جزء ترفيهى كالاستمتاع بمأكولات بدوية مميزة. فى صحبة النجوم ولأن لكل هواية فائدة تأسر قلوب أصحابها، وتعميهم عمّا سواها، فقد أجمع هواة الرصد الفلكى على أن الفائدة الأعظم لهوايتهم هى السلام، والشعور بالراحة النفسية، والاستمتاع بطمأنينة خالصة تحيط مشاعرهم، وسط جمال الصحراء والسكون، ومراقبة النجوم الكامنة فى عمق ظلمة السماء.. يقول عمرو عبد الوهاب، رئيس جمعية الدكتور مصطفى محمود الفلكية، والباحث فى الفلك وعلوم الفضاء، ومؤسس صفحة «Astrotrips»، إن الطاقة الإيجابية التى يعود بها مستكشفو السماء من رحلاتهم لا توصف، كما أن التأمل فى خلق الله هو خير علاج للاكتئاب. ويخفف جمال الهواية من صعوبات ممارستها، لتعذر توفير الأجهزة العلمية المعقدة مرتفعة الثمن، أو الحصول على تصريحات لإدخالها البلاد. الصغار يتقدمون بعد عرض برنامج (الكون.. رحلة فى الوقت والفضاء) على قناة «ناشيونال جيوغرافيك»، ظهر إقبال كبير بين الشباب صغار السن على علم الفلك والفضاء.. يقول عمرو عبد الوهاب، الباحث فى الفلك وعلوم الفضاء، إن المكان الوحيد الذى يوفّر دراسة أكاديمية للفلك وعلوم الفضاء هو قسم الفيزياء بكلية العلوم، والذى يدرس علم الفلك كعلم يهتم بدراسة الأجرام السماوية واستكشافها وتتبُّعها، كما يدرس علوم الفضاء المتعلقة بإرسال الرحلات الفضائية إلى خارج كوكب الأرض.. أما من فاتتهم الفرصة فبإمكانهم حضور ما تنظّمه (جمعية الدكتور مصطفى محمود الفلكية).ومؤخرًا، وبمجهود فردى، بدأ عبد الوهاب مشروعًا صغيرًا سماه (المرصد الفلكى المتنقل)، حيث أخذ تليسكوبه ليجوب محافظات الصعيد والقرى الفقيرة، بهدف توعية الناس بعلم الفلك.