لم أسافر إلى أمريكا أبدًا، لكننى أعيش فيها، وتستهوينى متابعة التفاصيل فى بلد العجائب، لم أفكر فيها كمكان للعيش، ولكن كملحمة سيتوقف التاريخ أمامها طويلا، كما توقف أمام الإمبراطورية الرومانية. أذكر أننى عندما كنت صبيا، تربيت فى أجواء اعتبرت كتاب «أمريكا الضاحكة» لمصطفى أمين قرينة على اتهامه بالجاسوسية.. وشعرت أن أى إعجاب بأمريكا هو درجة من درجات الخيانة الوطنية، والانبهار بالإمبريالية (يومها لم أكن أعرف بالضبط ماذا تعنى هذا الكلمة). مرت السنوات، وكتبت فى مجلة «سطور» المحترمة مقالا بعنوان: «رسالة إلى بهاء.. هذه أمريكا التى أحب»، تحدثت فيه عن السينما، والموسيقى، والحريات الفردية، ووالت وايتمان، وشتاينبك، وجينسبرج، وتشومسكى، وعشرات الأشياء التى أحبها فى هذا البلد الذى عشت أكرهه، وأردد مع جارودى أنه «طليعة الانحطاط». ولما تكررت مشاهدتى لثلاثية «الأب الروحى» لماريو بوزو وفرانسيس كوبولا، توصلت إلى مفهوم أكثر واقعية لأمريكا.. إنها هذا الخليط الساحر المصنوع من خوف المهاجر من الجوع ومن الغد، وحلمه الأنانى فى التطلع إلى الثراء والنفوذ والوصول إلى ألدرادو الذهب الذى خلب عقول الجميع. مع مرور الزمن لم تتغير هذه الخلطة، تطورت طريقة صناعتها، وتعبئتها، وتوزيعها، وتصميم شعاراتها، وحملاتها الدعائية، وسن القوانين التى تبيح تداولها لصالح الأقوى والأقدر. آآآآه. الأقوى والأقدر.. هذا مربط الفرس (ليس عند راعى البقر وحده، ولكن عند كل الناس)، فالقوة هى المفهوم الأساسى الذى قامت عليه الحياة الأمريكية، إنها مثل دراكولا تتغذى على الدم وتنشط فى الظلام! يا سلام؟!.. طيب ما الحياة الإنسانية كلها كده، تقوم على ثنائية «الدم والظلام»، حتى إن أساطير الخلق جميعها لا تخلو من هذه الثنائية، فالعالم فى كل أساطير الشعوب ولد من (الكاوس) وأنت حر تترجمها عماء، ظلام، فوضى، هيولة، ضباب، ماء سرمدى، وبعد هذا الكاوس جاءت القوة والقدرة على إضافة ما يسمى «نظام» وقواعد، وإرادة، وهى عوامل بشرية تنطلق من رغبات أفراد خارقين، وقدرتهم على قيادة التطور حسب استجابتهم للتحديات التى يواجهونها. قصة الحياة فى أصلها إذن مباراة بين طبيعة خام موجودة، وإرادة إنسانية تسعى إلى قيادة وتوجيه هذه الطبيعة من أجل تحقيق رغباتها ومصالحها وانتصاراتها، ومع تطور الإنسان واختراع أدوات جديدة تيسر عليه الصعوبات، ولحظات الاسترخاء بين صراع وآخر، تظهر الحاجة إلى الحب والرفاهية، والمعاملات المهذبة، واللغة الناعمة، والابتسام، وتنشط صناعة الأخلاق وشعارات حقوق الفرد، ولا فرق بين حديث نيتشه الذى يرى أن الضعفاء هم الذين صنعوها كوسيلة للتخفيف من بطش الأقوياء بهم (اعطف على الصغير، وارحم الضعيف، وكده)، وبين حديث ماركس الذى قال إن الأقوياء هم الذين صنعوها لحماية مصالحهم والحد من تمرد وغضب الضعفاء (احترم الكبير، واللى مالوش كبير، وكده). طبعًا ماركس ونيتشه (مولودين على راس بعض)، والخلاف بينهما عنيد، فالمفهومان موجودان فى الواقع ويعملان بطريقة متداخلة، ما يعنينا منها أن الأخلاق «مصنوعة وليست أزلية»، فهى تتغير من عصر إلى عصر حسب الظروف، كما يعنينا أن «الصراع» عمود أساسى فى الحياة، لكن موقفنا من هذا الصراع هو الذى يتغير، فمرة نكون نحن الأقوياء، فنتحدث بلغة دون كورليونى بعد أن صار العراب، ونعيد توظيف كل شىء لصالحنا ونقدم إلى الآخرين «عرضا لا يمكن رفضه (ده العادى)، ومرة نكون ضعفاء، فنتحدث بطريقة (خد كل فلوسى وسيبنى أعيييييش)». لكن هل جربنا أن نفكر من الضفة الأخرى؟ هل جربت وأنت ضعيف أن تفكر كما يفكر القوى، لكى تجد جسرًا للفهم والتواصل، وتستطيع أن تفهم دوافعه وتؤثر فى قراراته؟ وهل جربت وأنت مسؤول قوى وقادر أن تفكر كما يفكر المواطن الغلبان، وتفهم ظروفه لكى تجد أيضا جسر التواصل والتأثير؟! فكر براحتك، لكن المهم تعرف إن مافيش بطل ظهر فى التاريخ إلا وامتلك هذه القدرة على فهم الآخر ومعرفة ظروفه، وتبنى مصالحه، فالبلطجة والغطرسة تنتهى بانتهاء قوة صاحبها، أما البطولة فتعيش حتى بعد موت البطل. وغدًا نعود إلى كلينتون و«داعش».