الأخلاق الدينية تمتلك الخاصة، ودوافعها السامية إلي مقاومة الشر داخل نفس الإنسان، بل وفي العالم من حوله تحقيقاً للعدل، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه المؤمن أو المعاناة التي يتحملها في سبيل تلك المقاومة والتي تبدو أنبل مهمة علي وجه الأرض يمكن للإنسان أن يؤديها لأنها المهمة الأكثر تعبيراً، المهمة الأساسية الكبري كخليفة لله علي الأرض. فإن الدين يمثل تأسيساً أخلاقياً عميقاً للوجود البشري وتعديلاً علي مفهوم التوحيد الذي لا يقتصر علي كونه تصوراً عقلياً للألوهية بل يمثل طفرة ارتقائية علي طريق العلاقة بين الدين والأخلاق. عندما يدعو الإنسان إلي الإيمان بقوة غيبية فائقة هي .الله. الذي يصير هو المبدأ الأول لكل فعل خير وخلق جميل، يمارسه المؤمن بتقوي باطنه واقتناع داخلي من دون الحاجة بشعائر أو مظاهر خارجية، كما يصير هو القيد الأول علي كل فعل شرير أو مذموم، يتجنبه المؤمن حتي لو انتفت عنه رقابة القانون لأن المعايشة الإلهية هي وحدها التي تجعل الخير حسنا في ذاته، والشر قبيحاً في ذاته من دون حاجة إلي ثواب وعقاب دنيويين أو إلي ترغيب وترهيب سلطوي. كما أن مفهوم البعث وهو مفهوم مشتق من مفهوم التوحيد ومترتب عليه، منح الإنسان طاقة تحررية كبيرة إذ يقضي علي خشيته المطلقة من الموت ويحرره من الخضوع الشامل لضغوط الحياة الدنيوية، فإذا ما غاب الله غاب معه الإيمان باليوم الآخر، فتصير الحياة بغير غاية عليا، ويصير الإنسان محوراً لذاته ورغباته، يعمل علي أن يقترف من الحياة قدر ما استطاع من شهوات وعلي غير مهل ومن دون اكثراث، لو قاده ذلك إلي أن يطحن غيره في سبيل بقائه هو فتنعدم لديه كل قيمه الأخلاقية وتحل محلها أنانية بشعة واستعلاء غير مرغوب فيه علي الآخرين. وان الضمير من المفاهيم الأخلاقية الدينية، ففي عالم دنيوي مغلق لا يعلوه غيب ولا يتلوه بعث سوف تنتعش قيم إنسان .درويش. الذي ينتفي لديه الحضور الإلهي ويغيب عنده معني الوجود في خضم الصراع من أجل البناء. إذ لا يفوز الأفضل بالمعني الأخلاقي، وإنما الأقوي والأفضل تكيفا مع قوي الطبيعة الخارجية فيقهر الأقوي الأضعف بل يحطمه طالما استطاع ذلك. أما في عالم موصول غيبه بشاهده أو دنيوي اخروي، فإن صوت الضمير يزداد ارتفاعاً في مواجهة صوت الطبيعة، وإذا كان صوت الطبيعة يقول تخلص من الضمير ومن الشفقة والرحمة، تلك المشاعر التي تطغي علي حياة الإنسان الباطنية، .اقهر الضعفاء واصعد علي جثثهم... فإن صوت الضمير يقول: .ارحم الضعفاء ولا تزهو بقوتك وارحم الفقير ولا تغتر بثروتك. لأن الفضل قيمتها هو الله، أما فضلك أنت فليس إلا حسن التصرف فيها. وإذا كان العالم نيتشه زعم أن الأديان، وسيلة الضعفاء لاستدرار عطف الأقوياء، بينما قال ماركس بالعكس، أي ان الأقوياء اخترعوها لسلب وعي الضعفاء.. أيهما أكثر اقناعاً.. الدين وحده يمكن الضعفاء من الإلتمام بالمجتمع والمطالبة بالمساواة، ولعل هذا يفسر لنا لماذا ميزت بيوت الله فإنها تفتح أبوابها لتسع الجميع، الفقراء والجهلاء والمرضي وأيضاً الأثرياء والأقوياء، بل إنها تسع الجميع وتظلهم بظلها وهنا يتمكن الفقير أو فاقد البصر من الوقوف إلي جانب ملك أو وزير أو شخصية مشهورة، ناهيك عن أن يكون عند الله أفضل من هؤلاء جميعاً، إن المعني الحضاري الجوهري لأماكن العبادة يكمن في قدرتها علي تكريس الأخوة الإنسانية حيث يجد الجميع حاجته سواء كانت مادية أو روحية.