عندما انفجرت ظاهرة أدباء المقاومة فى الأرض المحتلة، وذلك فى منتصف عقد الستينيات من القرن الماضى، كان الشعراء فى قلبها تمامًا، وكانوا يشكِّلون العصب العارى للظاهرة، وأكثر المشتبكين مع قوى الاحتلال والاستبداد والطغيان الصهيونى، وسارع كثيرون ليتبنّوا الظاهرة، وراحوا يكتبون عنها، ويبشّرون بها، ويعلنون عن وجودها بقوة، وكان من أبرز هؤلاء القاص والكاتب والروائى الفلسطينى غسان كنفانى، وهذا من خلال كتاباته النقدية والصحفية فى مجلات وصحف بيروت، وقد صدرت هذه الكتابات فى كتاب عام 1968، وكان عنوانه «الأدب الفلسطينى المقاوم تحت الاحتلال.. 1948 - 1968»، ومن خلال هذه الكتابات بدأ الإعلام والنقد يتعرَّف بقوة على أدباء الأرض المحتلة، وكانت إسرائيل فى ذلك الوقت تمارس حصارًا رهيبًا على هؤلاء الأدباء، وكانت تقدّم الأدباء الذين يناسبون ذوق قادتها ومثقفيها، وكانت بعض دوائر الإعلام والثقافة فى الغرب يتعاطون مع كل ما تبثه إسرائيل من أخبار وموضوعات لتزييف الواقع الثقافى والأدبى، ويعتبرون ذلك هو الحقيقة المطلقة، لهذا كان كتاب كنفانى طلقة مصيبة وهادفة أطاحت بكل الأكاذيب الإسرائيلية فى غمضة عين، وأصبحت هذه الطلقة عاصفة، لتكشف عن مكنون ما يحدث فى الأدب الفلسطينى، فأصدرت مجلة «الطريق» عددًا كاملًا عن أدب المقاومة، وكذلك فعلت مجلة «الآداب» فى مارس 1969، وأصدرت عددًا كاملًا تحت عنوان «الثورة الفدائية»، وكان أحمد بهاء الدين ورجاء النقاش يبذلان جهدًا كبيرًا للتعريف بظاهرة أدباء المقاومة، ونشر رجاء النقاش ديوانى «آخر الليل» لمحمود درويش، وديوان «ادفنوا موتاكم وانهضوا» لتوفيق زياد، وذلك فى عددين متتاليين من مجلة «الهلال»، وشرع فى كتابة دراسة ضخمة عن محمود درويش صدرت فى مجلد كامل بعد ذلك، وكذلك نشر «سداسية الأيام الستة» للكاتب إميل حبيبى، وصدرت عن روايات الهلال، وإذا كانت الظاهرة قد أفصحت عن أسماء أدبية وإبداعية كثيرة، مثل حنا أبو حنا وتوفيق فياض وراشد حسين وغيرهم، إلا أن محمود درويش وسميح القاسم كانا هما الأكثر حضورًا فى المشهد الإعلامى، وإن كان محمود درويش قد أخذ مساحة واسعة جدًّا من الاهتمام، فكانت الصحف والمجلات تجرى معه حوارات عديدة، وتعتبره لسان حال أدباء المقاومة بامتياز، وكان هو كذلك يعبّر عن ذلك بمهارة وثقافة ووعى فائق، ولم تخدعه الأضواء المبهرة التى غمرتهم جميعًا، وتعاطفت معهم بشكل مذهل، ولكن هذا التعاطف كان نابعًا أساسًا من التعاطف مع القضية الفلسطينية، وهذا جعل الشعر فى المرتبة الثانية، وكتب حينذاك درويش مقاله - بيانه الشهير «ارحمونا من هذا الحب القاسى»، وأوضح فيه أنه ورفاقه الشعراء جزء لا يتجزَّأ من حركة الشعر العربى، ويأمل أن ينظر النقاد والمؤرخون الثقافيون إليهم من هذا المنطلق. وفى حوار أجرته معه مجلة «الآداب» فى سبتمبر 1970، وبعد إطلاق بيانه هذا، راح يشرح وجهة نظره باستفاضة، ونوّه إلى الهجوم القاسى الذى وجّهته مجلة «شعر» لحركتهم، وقال: «إن المجلة كتبت أسوأ كتابة عن الشعر وألصقتها بهم» وفى هذا الحوار وغيره صرّح درويش بأن مكانه الوحيد هو بين شعبه فى فلسطين، رغم كل أشكال الحصار التى تعمل على عزلهم، ولكنه خرج من الأرض المحتلة، وتكاثرت السيوف على رقبة درويش، وهاجمه كثيرون، حتى رفاق رحلته العسيرة، وكان على رأس هؤلاء سميح القاسم، وكتب كثيرون عن قصيدته: «إليك هناك حيث تموت»، التى فسّرها هؤلاء على أنها موجهة إلى درويش، حيث يقول فيها: (رسالتك التى اجتازت إلىّ الليل والأسلاك رسالتك التى حطّت على بابى جناح ملاك أتعلم؟ حين فضّتها يداى تنفّت أشواك على وجهى وفى قلبى أخى الغالى إليك هناك حيث تموت كزنبقة بلا جذر كنهر ضيّع المنبع كأغنية بلا مطلع كعاصفة بلا عمر...) واستخدمها كثيرون فى تأجيج الصراع بين الشاعرين، وكتب درويش نفسه هجومًا قاسيًا على سميح، وعيَّره بأنه كان مجنّدًا فى الجيش الإسرائيلى، ورغم رفض سميح المشاركة فى أى أعمال عسكرية فى الجيش الإسرائيلى، وتم حبسه تبعًا لهذا الرفض، وقال درويش فى مقاله -على سبيل إحراج سميح- بأنه كان يخدم الجنود الإسرائيليين، واشتعلت المعركة، وتدخّل رجاء النقاش، وكتب مقالًا مهمًّا آنذاك فى مجلة «الطليعة المصرية» ديسمبر 1974 لوقف هذا النزيف الذى يفسد أى تاريخ بين الشاعرين، وبالفعل توقَّفت المعركة، وأنكر سميح القاسم أن القصيدة كانت موجهة إلى درويش، وصرّح بأنه كتبها وكانا يقيمان معًا فى موسكو، وذكر درويش ذلك فى إحدى رسائله عندما ذكّر رفيقه بأن خصومه كانوا يستخدمون هذه القصيدة لقطع رقبته، وعاد الود بين الرفيقين، وتبادلا رسائل المحبة والذكريات على صفحات مجلة «اليوم السابع» واستعادا فيها أحلى وأقسى الذكريات، ففى 8 أغسطس 1988 كتب سميح القاسم رسالة لمحمود درويش يسترجع ذكرياته فى لندن عندما كان مدعوًّا فى أمسية شعرية هناك، وكانا -درويش والقاسم- قد ذهبا للتعزية فى رفيق الوطن المفقود ناجى العلى، وغادر درويش إلى باريس، وبقى القاسم لحضور أمسيته، ولكن البوليس البريطانى قبض عليه اشتباهًا فيه، وتوجّهت تهمة الإرهاب إليه، وبعد تحقيق معقَّد ومزعج، أفرجوا عنه، بعد الاعتذار لوجود التباس، مما جعلهم يقبضون عليه ويجرون هذا التحقيق، وعندما سأله المحقق: أين يود أن يذهب الآن؟ فقال له: (أرجو أن تأخذونى إلى قاعة البلدية، لعل الجمهور ما زال منتظرًا هناك)، ويواصل سميح كتابة الرسالة قائلًا: (وهكذا واصلت «الإرهاب» فى القاعة، وكان التعاطف والانسجام بينى وبين الجمهور رائعًا إلى درجة البكاء، ولا أعرف كيف أسدّد ديونى لهذا الجمهور الطيب الصادق الذى لف قلبى بالعلم ولف عينى بالأمل وشحن روحى وجسدى بشهوة الفداء المقدسة. ويا أخى محمود درويش: لسنا غصنًا مقطوعًا من شجرة هذه الأمة، نحن حرّاس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة، كان الله فى عوننا، كان الله فى عوننا).