وصل «صالح» إلى مقهى بترو فى ذلك اليوم مبكرا، فوجد أمامه نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأمامهما البحر بكل امتداده والكورنيش خال من المارة ومن السيارات فى ذلك الوقت من الصباح، وفى المقهى عدد من الرواد لا يزيد على أصابع اليدين، وعندما اقترب منهما كان كل منهما شاردا وكل منهما يضع تحت يده فوق المائدة عددا من «الكواكب» التى كانت قد صدرت فى هذا اليوم. ألقى صالح بالتحية، فجاءه الرد فاترا، وجلس إليهما فإذا بالفتور يسرى إليه، ظن أن ثمة ما يشغلهما، فهمَّ بالانصراف، فإذا بتوفيق الحكيم يهتف به غاضبا: «إيه اللى انت عملته ده يا أستاذ؟!». وبدت كل علامات الدهشة على وجه صالح قبل أن يقول مخاطبا الحكيم: «هو أنا عملت إيه يا أستاذ؟!». فصاح الحكيم قائلا: «ليه سميت اللى انت كاتبه ده كاريوكا؟!!». فرد «صالح» قاطعا، وهو مذهولا: «لأنها تحية يا توفيق بك». فإذا بنجيب محفوظ يقاطعه والأسى يقطر من بين شفتيه: «طاب ما تسميها قصة راقصة يا أخى». نظر إليهما «صالح» وهو لا يعى ما يسمع، وانهال عليه التقريع من كليهما، لكنه أنصت فى إجلال ليتعلم درس عمره من العم نجيب محفوظ، الذى مال نحوه وقال له: «اللى انت كاتبه ده أدب.. أنا لو سميت اللص والكلاب (محمود سليمان) -الذى أطلقوا عليه لقب السفاح فى الستينيات- ماكانتش بقت رواية»! ثم أشعل العم «نجيب» سيجارة حان موعدها، وقال فى ابتسامة حانية: «وبرضه كانت حتبقى كاريوكا، مش حد تانى»! لقد منحه سر الصنعة، وتعلم «صالح مرسى» الدرس الأهم فى عمره، وربما كان ذلك اليوم هو مفترق الطرق الذى غير مجرى حياته لينتقل من قاص جيد إلى صانع أدب جديد. كانت مذكرات كاريوكا هى البداية، لكن صالح مرسى قاوم كتابتها كثيرا، فقد كانت المرة الأولى فى نهاية الخمسينيات حين ذهب إلى كاريوكا وقال لها «نفسى أكتبك» فوافقت، وهرب ونسى أو تناسى، ثم عاد وكرر الطلب بعد تسع سنوات، فوافقت ثم اختفى للمرة الثانية، لكنه عاد بعد أسابيع قليلة ليبدأ معها تسجيل رحلة حياتها فى عشرين ساعة، لتنشر فى مجلة «الكواكب» منذ قرابة نصف قرن، لكن المدهش أن هذه المذكرات لم تُنشر فى كتاب، بل إنها اختفت!! نعم، اختفت، فحين ذهبت إلى دار الكتب والوثائق وجدت أن الأعداد التى نُشرت فيها المذكرات فى «الترميم» -باستثناء أعداد قليلة- وبالتالى لا يمكن الاطلاع عليها أو تصويرها، أما فى مكتبة الإسكندرية فلم أجد سوى ست حلقات فقط، فاتجهت إلى سور الأزبكية وسور السيدة زينب حتى عثرت على أجزاء من هنا، وأجزاء من هناك، وبعد رحلة بحث طويلة تم الوصول إلى المذكرات والحصول عليها كاملة بكل ما فيها من أسرار ومفاجآت، وأعدت نشرها بجريدة «التحرير». تعلم صالح الدرس من نجيب محفوظ، لكن قبل سنوات كان قد تعلم درسا آخر حين تعرف على يوسف إدريس! فحين هبط صالح إلى القاهرة فى العشرين من ديسمبر عام 1955 قادما من الإسكندرية لم يكن قد أتم عامه السادس والعشرين، ولم يكن يدرى ماذا يفعل، فقد ولد فى مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية فى فبراير عام 1929، وعمل بحارا، لكنه اكتشف أنه لم يعد من الممكن أن يستمر فى عمله فى البحر، وأدرك أنه كان يراقب الحياة من حوله كأنه يشاهد فيلما أو مسرحية، فقد كان يشاهد البحر لكنه لم يكن يوما جزءا منه. شخص واحد فقط كان قد تعرف عليه، وعرض عليه مساعدته، كان هذا الشخص هو الفذ يوسف إدريس. كان إدريس أول من قرأ ل«صالح» قبل أن يحضر من الإسكندرية وأشاد به وقال له: (قرأت «زقاق السيد البلطى» و«الحياة تسير» و«خمر وناس» و«الأمواج»، وحين قرأتها تغير رأيى فيك تماما، فأنت لست بكاتب قصة فقط، ولا أنت مجيد فقط، ولكن مستواك غير عادى فى الكتابة، أنت فنان). كانت الخطابات المتبادلة بين يوسف إدريس وصالح مرسى لها الأثر الأكبر فى قراره بترك العمل فى البحر، والالتحاق بالعمل فى مهنة أخرى لكنها أيضا متلاطمة الأمواج. كانت كلمات يوسف إدريس بمثابة نقطة تحول كبيرة فى حياة صالح مرسى، فقد جعلته أكثر ثقة فى ما يكتب، خصوصا أن إدريس كان حادا فى نقده، لاذعا فى رأيه، وبالتالى فشهادته وسام. وجد صالح مرسى نفسه فى أدب الجاسوسية فقد برع وتألق وبزغ نجمه فى هذا النوع من الأدب، الذى لم يكن معروفا قبله، فهو الأب الشرعى لهذا النوع من الأدب الذى صار -فى ما بعد- واحدا من أكثر الأعمال جذبا للقراء، والمشاهدين! فبعد أن كتب قصة حياة «كاريوكا» ومن بعدها «ليلى مراد» وجد أن عليه أن يتفرغ للأدب، ولكن عليه أن يبتكر نوعا جديدا لم يعهده القراء، فكتب قصته البديعة «الصعود إلى الهاوية» فى نهاية السبعينيات، وفى مطلع الثمانينيات كتب رائعته «دموع فى عيون وقحة» وبعدها كتب «الحفار» و«رأفت الهجان» الذى يعد أشهر أعماله، ومن أشهر الأعمال فى تاريخ الدراما التليفزيونية. أهم ما ميز العم صالح مرسى أنه شق طريقا لم تعرفه الكتابة فى مصر من قبل، وسار فيه بمفرده ثم جاء الناس بعده، فصارت أعماله من كلاسيكيات الدراما، وظلت من علامات شهر رمضان لسنوات طويلة، وفى ذات الوقت صارت لها مكانة أدبية رفيعة المستوى، لكن الأهم أن قصصه ليست من وحى خياله، وإنما هى من وحى بطولات حقيقية وأبطال حقيقيين من لحم ودم، من بينهم «جمعة الشوان» أو «أحمد الهوان» البطل الذى هان على الجميع، وعاش زاهدا يسكن فى شقة متواضعة، لكنه لم يسأل الناس إلحافا رغم مرضه، وضعف دخله، وعدم سؤال المسؤولين عليه، لكن «هى ده مصر يا عبلة» مثلما قالها عمنا «صالح مرسى»!