إذا صدق البيانان الصادران عن كتائب القسام والجيش الإسرائيلى بخصوص عملية أسر ضابط المشاة الإسرائيلى «هدار جولدين»، نكون أمام سياسة إسرائيلية مستجدة فى الحرب، تتلخص فى عدم السماح بتكرار سيناريو «جلعاد شاليط» الجندى المأسور قبل حرب 2006، الذى فشلت حرب لاحقة فى 2008 فى تحريره، ولم يخرج سوى بمفاوضات شاقة تم فى مقابلها الإفراج عن مئات المعتقلين الفلسطينيين فى سجون الاحتلال، ومثل طوال خمس سنوات هى فترة أسره نقطة ضعف تلوى ذراع الحكومة الإسرائيلية فى التعامل مع حركات المقاومة فى قطاع غزة. كبير حاخامات جيش الدفاع أعلن موت جولدين، وكتائب القسام أعلنت فقدان طاقمها الذى كان يقوم بالعملية التى تضمنت محاولة أسر الضابط الإسرائيلى، بمعنى أنه من المرجح أن تكون كوادر القسام والضابط الإسرائيلى قد لقوا مصرعهم جميعا فى قصف إسرائيلى استهدفهم. لم تكن تلك هى المرة الأولى التى تتضارب فيها الأخبار عن أسر عسكرى إسرائيلى، فى ذات الحرب أعلنت كتائب القسام عن أسر الجندى «شاؤول آرون»، لكن إسرائيل التى اعترفت بفقدانه، لكنها رجحت موته، واحتفاظ حماس بجثمانه، وفى الوقت الذى عمت الأفراح المناطق الفلسطينية بعد إعلان أسره وجرى توزيع الحلويات فى الشارع ابتهاجا، انقطع أى حديث عنه تماما بعد ذلك، سواء فى التصريحات الإسرائيلية أو الفلسطينية، أو فى مجريات الأخبار، حتى أعلن الجيش الإسرائيلى رسميا مقتله فى القصف العنيف الذى استهدف حى الشجاعية. مات جولدين وشاؤول إذن بنيران إسرائيلية صديقة، والأرجح أنها ليست نيرانا أخطأت أهدافها، بقدر ما تعمدت قصف الموقعين اللذين وجد فيهما رجلاهما. هل فى تلك الملابسات ما يشير إلى أن إسرائيل تقتل جنودها؟ وهل تصدق أن الدولة التى خاضت حربين من قبل لتحرير جندى واحد فقط، تتعمد الآن قتل جنديين على الأقل، فى أثناء وقوعهما فى الأسر؟ لا يمكن أن تستبعد ذلك من متابعتك للمواجهات الإسرائيلية الفلسطينية، سياسيا وعسكريا الثمن أفدح حين يكون لإسرائيل جندى فى الأسر، عنه حين يكون لها عشرات القتلى فى معارك عسكرية يعرف كل ضابط وجندى فيها أنها ليست نزهة، تحدثنا عن ثمن شاليط الفادح سياسيا، أضف عليه ما سببه أسره من مشكلات نفسية داخل المجتمع الإسرائيلى ومن احتقان ضد الحكومة واعتصامات أمام مقرها، وضغوط محلية دفعت الحكومة العاجزة عن استعادته للخضوع للمفاوضات. الجندى المأسور هو ذراع إسرائيل التى تلوى، وهى لا تريد أن تلوى ذراعها مجددا، لذلك تحاول أن تجنب جنودها الأسر، وتحاول تحريرهم إن وقعوا فى الأسر بسرعة، وعندما تفشل لا يبقى أمامها سوى حل واحد، أن تحرم المقاومة من ورقة الأسير الحى، وأن توفر على نفسها عناء سياسيا، وإهانة عسكرية، ومشوارا طويلا من التعاطى مع أزمة استعادة الأسرى. حتى الآن لا توجد ملابسات واضحة لمقتل الجنديين، ربما تظهر شهادات تتحدث عن هذا الأمر بعد نهاية الحرب ووقف إطلاق النار، لكن الملابسات المعلنة على الأقل تثير هذه الاحتمالات والشكوك، وترجح أن إسرائيل فضلت نسف مواقع أسر جنودها بمن فيها من إسرائيليين وفلسطينيين، باعتبار ذلك أخف الأثمان إذا كانت عملية تحريرهما باهظة التكلفة، والاستسلام لوقوعهما فى الأسر أكثر كلفة. لكن أخلاقيا.. هل يمكن أن تقبل «الدولة الديمقراطية» ذلك؟ طالما أن الأمر فى سياق التدابير العسكرية فهى تقبله، باعتباره موازنة دقيقة فى حفظ مصالح الدولة، وهو أمر مشروع إسرائيليا على المستوى الدينى والعسكرى والسياسى كذلك، والشواهد على ذلك من تاريخ إسرائيل ذاتها كثيرة وموثقة ومعروفة الآن لليهود قبل غيرهم، حين كانت المنظمات الصهيونية العالمية تتعمد تفجير تجمعات وأحياء ومصالح يهودية فى العالم، وإسقاط قتلى يهود، لتفزيع الجاليات هناك وإجبارها على الهجرة إلى الوطن القومى على أرض فلسطين. إسرائيل تؤسس من جديد لهذه السياسة، والبداية على الأرجح بشاؤول وهدار جولدين.