عندما رحل الفنان العظيم حسن فؤاد فى يوليو 1985، اهتزّت بالفعل الحياة الفنية والثقافية، تقديرا واحتراما لدور هذا الفنان على مدى أربعين عاما من العطاء، وأسفا شديدا على رحيله الفاجع، وكان قد حقق أسطورة الفنان الذى تركت بصمات غير عادية على فن البورتريه، وصناعة الصحف والمجلات والأغلفة، وقد كتب كثيرا مقالات ودراسات عن الفن ما زالت حتى مطوية فى صحف ومجلات عقدى الخمسينيات والستينيات. وأنا لا أعرف كيف لا تلتفت المؤسسات الثقافية المصرية الكبرى، والتى تعاقبت على إدارتها شخصيات كبيرة ذات ثقافة عالية، ولا تهتم بجمع التراث النقدى الفنى لهذا الرجل العظيم، فضلا عن أن له كتابا مهما عن الفنان بيكاسو، وكان يقدّمه مسلسلا فى مجلة «صباح الخير»، هذا عدا قراءاته النوعية والعديدة، التى كان يقدمها فى مجلة «روزاليوسف» على مدى سنوات طويلة، وبشكل أسبوعى، ورغم أنه فى عام قيام ثورة يوليو 1952 كان عمره لا يزيد على ستة وعشرين عاما، فإن الكاتب أحمد حمروش اختاره لإخراج أوَّل مجلة تمثّل لسان حال ثورة يوليو، وهى مجلة «التحرير»، وقد أخرجها بشكل جديد وثقافة جديدة، وحساسية تناسب العهد الذى انبثق بعد قيام الثورة، وقد طبع من العدد الأول 100 ألف نسخة، وكان هذا الرقم كبيرا جدا، وشبه مبالغ فى ضخامته، لكن ثقة حسن فؤاد فى ما ذهب إليه، كانت كبيرة فى تاريخية العدد، الذى لم يغطِ احتياجات القارئ، فطالب بزيادة العدد المطبوع. وكان حسن فؤاد قبل هذه التجربة قد مارس الإخراج الصحفى فى جريدة «المصرى» برئاسة تحرير أحد الصحفيين الكبار والمغامرين، وهو الكاتب الصحفى الراحل أحمد أبو الفتح، ولم يكتفِ فؤاد بتجربة «التحرير» فقط، بل أصدر مع عبد الرحمن الشرقاوى وصلاح حافظ مجلة «الغد الثقافية»، والتى كانت مفاجأة فى الإخراج الصحفى للمجلات الثقافية، كذلك المادة الثقافية التى تعبّر عن مناخ سياسى وفكرى جديد، لكن مجلة «الغد» كانت تنتمى بتركيبة مشرفيها إلى اليسار، وكانت مجلتا «الرسالة» و«الثقافة» على وشك الإغلاق، فجاءت مجلة «الغد» لتملأ المساحات الفارغة التى تركتها المجلتان الراحلتان، وفى تلك المرحلة أصبح اسم حسن فؤاد كبيرا، للدرجة التى راح البعض يقارنه بحسين بيكار وأقرانه من الفنانين الكبار فى ذلك الوقت، وبعد أعوام قليلة فى يناير 1956 صدرت مجلة «صباح الخير» التى رأس تحريرها الكاتب أحمد بهاء الدين، ومعه مجموعة من الكتاب والأدباء الشباب، مثل صلاح جاهين ومحمود أمين العالم ومصطفى محمود ولويس جريس وصبرى موسى.. وغيرهم، وكذلك مجموعة فنانين شباب، وعلى رأسهم الفنان حسن فؤاد الذى صنع غلافا للعدد الأول كان مذهلا للجميع، وكان قبل ذلك قد نشر مجموعة بورتريهات لرواية «الأرض» التى كانت تنشر مسلسلة فى جريدة «المصرى»، وبعدها تربَّع حسن فؤاد مع الفنانين الكبار على عرش صاحبة الجلالة فى الإخراج الصحفى، وقدَّم فنانين وتلاميذ كبارا، تركوا بصماتهم على هذا الفن المهم، وعلى رأسهم الفنان الكبير الراحل محيى الدين اللباد، والذى أخرج كتابا عنه، صدر بعد رحيله مباشرة، وكتب له مقدمة فى غاية الأهمية، تلقى أطرافا مهمة من الأضواء على مسيرة حسن فؤاد، وقد كتب عددا من الكُتَّاب مرثيات مؤثرة، منهم يوسف إدريس وصلاح حافظ ومحمود أمين العالم وسامى السلامونى ومحمد بغدادى وصبرى موسى وسمير فريد وفيليب جلاب وسكينة وفؤاد ولويس جريس وأحمد حمروش وغيرهم، لكن الذى لفت نظرى البورتريه الذى كتبه العم خيرى شلبى فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بتاريخ 3 أغسطس 1985. وبعيدا عن أهمية حسن فؤاد العظمى، والتى لن يختلف عليها اثنان، راح خيرى شلبى يضرب فى المساحة الإنسانية العالية لحسن فؤاد، فقدّم للقارئ بورتريها فريدا من نوعه لأحد الفنانين العظام، يقول خيرى شلبى: «فى الفن كان (حسن فؤاد) مدرسة، وفى أى مدرسة كان عائلة بمفرده، بل كان مجتمعا كاملا، وكان أنسا وبهجة وفرحا.. تراه يجلس إلى مكتبه فى مجلة (صباح الخير) يتثاءب فى ملل أو يقرأ فى سأم قد لا ينتبه إلى وجودك المفاجئ، رغم أنه يكون قد ردّ عليك السلام نطقا ومعانقة باليد، وقد يرقبك من تحت زجاج النظارة فى شرود لبُرهة، فيبدو أنه فريسة لشعور دائم بالكآبة، هذا إذا لم تعرفه جيدا، أما إن كنت تعرفه فإنك تُوقن أن بداخله مهرجان فرح وحيوية وإنسانية، ولسوف يغمرك المهرجان بعد بُرهة وجيزة»، ولأن خيرى شلبى وصّاف من طراز فريد، فهو يحتاج إلى مساحة واسعة فى الشخصية التى يرسمها ويصفها، وهو يأخذ راحته تماما فى الذهاب والإياب فى رسم محبِّيه، فخيرى شلبى من أعمق مَن كتبوا البورتريه فى مصر، وربما فى العالم العربى. وهو امتداد طبيعى ومركّب لعبد العزيز البشرى من ناحية، ولإبراهيم عبد القادر المازنى من ناحية أخرى، وكما أن المؤسسة الثقافية مقصِّرة فى جمع كتابات وبورتريهات حسن فؤاد، فكذلك يتكرَّر هذا الأمر مع خيرى شلبى الذى له من الكتابات المتناثرة فى المجلات ما يكفى مجلدات، غير ما جمعه هو ونشره فى أواخر حياته، خصوصا البورتريهات التى تنطوى على فرادة مذهلة، اقرأ ما يقوله عن حسن فؤاد: «وحين تجلس مع حسن فؤاد فأنت فى نفس الوقت تجلس مع ابن بلد مئة فى المئة، فإذا أنت زرته فكأنك مع موظف بسيط يستقبلك فى منزله مرتديا جلبابا من الزفير المقلّم، وفوق رأسه طاقية من نفس القماشة.. وإذا أنت مع تاجر حبوب أو غلال يجالسك فى صدر متجره لابسا جلبابه الصوفى، ومن تحت الصديرى الشامى، وفوق رأسه طاقية صوفية، وفى قدميه مركوب بنى دون شراب، يعرض عليك عيّناته وتحت شاربه ترتعش ابتسامة تفاخر، وهو يلفت نظرك إلى أن هذه الحبوب من نتاج أرض مصر الصغيرة، وأن هذه البيعة لقطة، وفيها لقمة عيش طريّة، فلا تضيعها»، ويظلّ خيرى العظيم يتجوّل فى حسن فؤاد العظيم، ونشعر كأننا نقرأ مقطوعة من الموسيقى الغزلية الراقية، لا يكتبها إلا نبيل عن نبيل يُشبهه.