السياسة لا تنفصل عن المال، ولذلك يعتبر أهل السلطة أن قدرتك على الحكم تقاس بمدى قدرتك على استخراج القرش من جيب المحكوم، لا يختلف الأمر إن كنت ستهلل للحاجة زينب وتجعلها نموذجًا للمواطن الصالح الذى يجب أن يحتذيه الجميع، أو أن تشخط فى رجال الجباية لتحفيز همتهم على جمع «الكوتة» المطلوبة، أو أن توقع الفرمانات والمخالفات وترفع الأسعار، لا فرق، كلها فى النهاية مجرد أساليب لجمع المال. هل تذكرون أننى انفعلت ذات مقال، وتعهدت بعدم ذكر الجنرال الذى يحكم مصر الآن؟ حسنا. أنا ما زلت أتذكر، ولم أحنث بعهدى، فنحن الآن فى بداية القرن التاسع عشر، وكليبر انتهى لتوه من قمع مؤامرة العثمانيين التى دبروها فى ما عرف لنا بثورة القاهرة الثانية (لا يتصور أحدكم أننى أستخدم الرمز لمؤامرة العثمانيين الجدد الذين حاولوا ركوب ثورة 25 يناير)، لكن العيب فى تاريخنا. المهم أن كليبر، انتهى من العثمانيين، وبدأ فى تنفيذ خطته الاقتصادية التى كان قد وضعها منذ تسلم السلطة بعد أن «طار بونابرت من القفص»، وترك قواته محاصرة داخل مصر بعد تدمير الأسطول فى أبو قير، وكانت فكرة كليبر أن يعتمد على مصر فى كل الموارد، بالغرامات ورفع الضرائب، لضمان صمود القوات حتى يتمكن نابليون من توضيع أحوال فرنسا فى مواجهة أوروبا التى تحالفت ضده. لذلك دعا شيوخ الديوان، وأنبهم بعنف، قبيل أن يخلع على بعضهم الخُلع، ويلعب معهم لعبة «العصا والجزرة»، ثم يخبرهم بكل حسم أن عليهم غرامة ضخمة مقدارها عشرة آلاف فرانك، ولا مناص من جمعها (الدفع أو الحبس)، وسمى أسماء معينة من المشايخ ألزمهم بالغرامة، وترك لهم الحرية فى طريقة دفعها، من أموالهم، أو جمعها من الناس، لا يهم. ألقى كليبر أوامره بخشونة واضحة هذه المرة، وركب إلى الجيزة حيث غير محل إقامته قرب المعسكر العام حتى يتم إصلاح منزل الأزبكية. كانت «خطة الانتقام» تبدأ بالشيخ السادات، الذى ماطل فى الدفع فاعتقله الحراس وحبسوه فى القلعة، فأرسل إلى عثمان بك البرديسى يطلب شفاعته عند كليبر حتى لا يقتله. ولما تحدث إلى سارى عسكر فى أمره، قال له: أما القتل فلا نقتله لشفاعتك، لكن المال لا بد من دفعه، ولن يخرج من محبسه حتى يدفع، ثم فرضوا عشرة من العساكر عند بيته، لاعتقال كل من يدخله خشية تهريب أمواله. أنبهكم أن الجبرتى لا يحب الشيخ السادات، ولذلك تجدون كلامه فيه قدر كبير من التحامل عليه، وإن كان لم يتجاوز حقيقة الرجل، لكن بأسلوب فج ومباشر، فهو يراه بخيلا، ونهما، وحريصا على المال والجاه، لذلك رفض أن يدفع، وادعى الفقر، رغم أنه كان محبوسا فى «حاصل ضيق»، ينام على التراب ويتوسد بحجر، ويتعرض للضرب والإهانة. وبعد يومين من «البهدلة» طلب وساطة زين الفقار كتخدا لتسهيل الدفع وقال لهما: أنزلونى إلى دارى حتى أسعى وأبيع متاعى وأشهل حالى. فاستأذنوا له وأنزلوه إلى داره، فأحضر 6 آلاف فرانسة، وكيسًا من المصاغ والفضيات والفراوى والملابس تم بيعه بأبخس ثمن، فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة وبلغ المدفوع بالنقدية والمقومات واحدا وعشرين ألف فرانسة، وقال ليس لدى غير ذلك، وكانت الغرامة 50 ألفا، فبدأ العسكر فى تفتيش الدار، حتى حفروا الأرض، وفتحوا الكنيفات وبحثوا فيها (تحملوا لغة الجبرتى الصريحة) فلم يجدوا شيئا ثم نقلوه إلى بيت قائمقام ماشيا وصاروا يضربونه فى الطريق، وحبسوا زوجته حتى تشفع فيها وفد من شيوخ الديوان على رأسهم الشرقاوى والفيومى والمهدى، وأخيرا توسطت له الست «نفيسة» زوجة مراد بك، فقبلوا شفاعتها ورفعوا عنه الغرامة، وردوها على الفردة العامة. يعنى الناس الغلابة هتدفع الحساب كله فى الآخر.. شدى حيلك يا زينب.