لكلٍّ منا ذكرياته مع شهر رمضان، وتتباين رؤى الجميع حوله، فتختلف نظرة المثقف عن رجل الشارع العادى إلى قيمة هذا الشهر الكريم، وفى حوار مع «التحرير»، يأخذنا الكاتب والمفكر صلاح عيسى فى رحلة مع ذكرياته عن شهر الصيام، ويؤكد أن كل مظاهر الاحتفال والبهجة والفرحة الخاصة به تحمل بصمة مصرية أصيلة، خلقها المصريون عبر العصور. ■ ما رؤيتك لرمضان؟ وما وجه اختلافه الآن عن زمان؟ - السنوات تختلف ولا يشبه بعضها بعضا، وبالتالى لا يمكن أن يتشابه رمضان فى سنة مع أى رمضان آخر، ولو تأملنا قليلا فسنجد أن رمضان شهر له طقوسه وتقاليد اجتماعية خاصة، ويختلف عاما بعد عام، وكل مظاهر الاحتفاء به يعود أصلها إلى المصريين، لأنهم أول مَن ابتكرها، وكانوا يضيفون إليها فى كل مرحلة زمنية تقاليد جديدة وعادات جديدة وأطعمة جديدة. ■ كيف كان رمضان فى طفولتك؟ - بالنسبة إلى جيلنا فأنا عاصرت رمضان فى كل فصول السنة، وما زلت أذكر أننا كنا نختم العام الدراسى فى شعبان، ثم تظهر النتيجة فنسافر إلى قرانا لنقضى رمضان هناك، ودارت الفصول حتى أصبحنا نحتفل به فى الشتاء وفى وسط العام الدراسى، ثم عاد إلى الصيف من جديد.. ورمضان فى الشتاء يختلف عنه فى الصيف، والاحتفال به فى القرية يختلف عنه فى المدينة. ■ كيف ترى رمضان فى القرية قديما وحديثا؟ - رغم وجود طقوس مشتركة فى قريتنا، فكانت الأسرة فى بداية الشهر تفتح المضيَفة المستقلة عن مكان إقامة الأسرة، وكنت أعيش فى أسرة مركبة فيها الجد والأبناء وزوجات الأبناء والأحفاد، وإلى جوار منزل جدى كان هناك منزل آخر ضخم، وبينهما فناء كبير يتجمَّع فيه الأطفال، وقبل أذان المغرب بنصف ساعة كان جدى يحضر شيخا ليقرأ القرآن ساعة الإفطار، ويصعد ليرفع الأذان، ويتناول فطوره مع أحد أفراد الأسرة، وينصرف ثم يعود وقت صلاة العشاء، وبعد أذان العشاء تبدأ السهرة بسماع القرآن الكريم، وفى هذا الوقت يأتى الضيوف من الأقارب والجيران، ونقدِّم إليهم مشروب القرفة الذى كان منتشرا فى ذلك الوقت، وينقضى وقت السمر بين الأهل فى المناقشات. ■ هل اختلفت استعدادات رمضان الآن عما كانت عليه قديما؟ - الاستعداد لرمضان فى الريف كان فى حدود ضيقة، ولم يكن الفلاحون يهتمون بالأشياء المعروفة الآن، من مأكولات وياميش وزبادى، بل كان اهتمامهم الأكبر بالبلح فقط، وكانت التغذية فى الريف خلال رمضان مختلفة عن المدينة، كما كان المسحراتى يختلف عن نظيره فى المدينة، فى شكله، وفى طريقة إيقاظ الناس وقت السحور. ■ كيف يمكنك استنقاذ هذه الذكريات فى ظل حركة التاريخ وسرعة إيقاع الحياة؟ - لدينا وسائل كثيرة، ونحن فى عصر التدوين الكتابى والفوتوغرافى والأفلام التسجيلية، وكل معلوماتنا المعروفة عن الاحتفال برمضان عبر العصور حصلنا عليها من كتب مؤرِّخى العصور الوسطى الذين دوَّنوا ملاحظاتهم بخط اليد، مثل ابن إياس، والجبرتى، وفى مذكرات الشخصيات المعاصرة، سواء قصد الكاتب ذلك أم لا. وبالنسبة إلى العصر الحديث فمنذ ظهرت الصحافة سنجد كثيرا من الحكايات التى تحفظ لنا هذه الذكريات، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث العلمية، سواء فى الشؤون الاجتماعية أو غيرها، وأقسام الاجتماع فى كليات الآداب، وما تحفظه دار الإفتاء من أمور خاصة بالصيام، وأيضا مدفع الإفطار ورؤية هلال رمضان، كل هذا سيظلّ باقيا ومحفوظا، ونحن نعيش على هذه الذكريات. ■ ما أهم الذكريات التى تستوقفك فى رمضان؟ - من ضمن الذكريات الطريفة سيد أبو النجا، وهو أوَّل مَن أدخل فن الإعلام العصرى فى الصحافة المصرية، عندما تعهد بالحملة الإعلانية لمشروب «بيبسى كولا» فى الخمسينيات، وكان هذا المشروب غير معروف فى ذلك الوقت، وبعدما أقامت الصحف الوطنية حملة بدعوى أن المشروب يتم تحضيره من الخنزير وشربه حرام، اختار أبو النجا شعار «بيبسى كولا.. الشراب النقى الطاهر»، واستغلّ رؤية هلال رمضان، وبعد رؤية الهلال فتح لهم «بيبسى» وتم التصوير والتسجيل، وكل وسائل الإعلام خرجت تقول: «أصحاب الفضيلة يشربون البيبسى»، وتم تدوين ذلك. ■ أىّ شهر من شهور رمضان أكثر أهمية بالنسبة إليك؟ - شهر رمضان الذى لا تزول ذكراه أبدا، هو رمضان الذى شهد حرب أكتوبر، ففى ذلك الوقت لم تكن وسائل الترفيه الحديثة منتشرة، فكان الناس مؤهلين لشهر من فراغ العقل والاستمتاع والنوم، ومشاهدة المسلسلات والفوازير، ثم فوجئوا فى يوم 10 رمضان بقيام الحرب، وكنت مفصولا من جريدة «الجمهورية» فى ذلك الوقت، ومعى 120 صحفيا مصريا بموجب قرار الرئيس السادات، بسبب دعمنا للحركة الطلابية، وقبل بداية رمضان أعادنا إلى العمل، ثم منعنا مرة أخرى من دخول الجريدة، فقررت أن لا أعود إلى العمل مجددا، ثم سمعت خبر الحرب، وهكذا نزلت إلى الجريدة، وكان رمضان فى ذلك العام مختلفا تماما، تم إلغاء المسلسلات والفوازير، والصخب الإعلامى، وتقييد الإضاءة، وحلَّت حالة من الحزن على أرواح الشهداء، وساد جوّ من الاهتمام بشؤون الحرب، فكان هذا هو أهم شهر رمضان عشته، ولا أتصوَّر أن أعاصر رمضان آخر بالأهمية نفسها مرة أخرى. ■ عاصرت حرب أكتوبر، فهل تتوقَّع حربا جديدة خلال الفترة المقبلة؟ - المنطقة الآن مليئة بالحروب، وفيها ما يكفى، وهجوم الإرهابيين وعنف الإرهاب لا يتوقف، فلا أعتقد أن تخوض مصر أو أى بلد عربى فى المنطقة حربا جديدة، وستظل الجبهة هادئة لسنوات طويلة. ■ وماذا عن «داعش»؟ لا أظن للأمريكان مصلحة فى خلق «داعش» أو غيرها، والحرب فى المنطقة حاليا حرب ضد الإرهاب، والأمريكان لن يدعموا الإرهاب، وقد قاموا بذلك مرة، والآن يدفعون الثمن، و«داعش» وغيرها تتاجِر بالدين، ولا علاقة لها بالجهاد والنضال، وأعتقد أن الحاجة إلى تحويل الثورة إلى دولة هو الهاجس الذى يسيطر على المصريين الآن، فالناس تميل إلى الاحتكام للتقاليد، والتفاهم معا، والابتعاد عن كل ما يحول بينها وبين الاستقرار. ■ هل أثّرت «30 يونيو» فى رمضان؟ - المصريون أصبحوا فى حالة أكثر أهمية بعد «30 يونيو»، وتخففوا من التوتر الذى خلفه الإخوان بعد مجيئهم إلى الحكم، فقد خلق وجودهم حالة من التوتر لم نكتشفها إلا بعد رحيلهم عن الحكم، ولا نعلم سببها الحقيقى، أنا أحد الناس لم أتصوَّر أنهم كابوس ثقيل على نفسى لهذه الدرجة، إلا فى اللحظة التى رحلوا فيها، كيف كنا نعيش تحت ظل هذا الكابوس، وعاد المصريون إلى جزء من تقاليدهم فى الشهر الكريم. فى شهر رمضان المصريون لديهم أسلوب خاص فى التدين يلفت نظر الجميع، يفعلون الآثام خلال العام ويُكفِّرون عنها فى رمضان، علما بأن هناك ظواهر سلبية ظهرت مثل التحرش الذى لم يكن موجودا فى جيلنا، إلا أن هذه الظاهرة لن تستمر فى مصر. ■ هل المصريون شعب يكره السياسة ولا يميل إلى التغيير؟ - الشعب المصرى مسكون بالاستقرار، ومعروف أن حضارة وديان الأنهار تطلق على مصر لأنها بلد نهرى، وهذه البلاد تحتاج إلى سلطة مركزية قوية، وهذا يفسِّر وجود السخرة فى مصر منذ عهود قديمة، فحكَّامها سخَّروا المصريين للبناء والتعمير، وحضارة الأنهار قائمة على فكرة الاستقرار، لكن ذلك لا يعنى أنها لا تثور، هى تثور لكنها لا تثور ثورات متفرقة، ثوراتها مثل ثورة الجِمَال، فالمصريون أشبه بالجَمَل الذى صبر صبرا طويلا ثم يثور ثورة وَحْش، وهذا ما حدث فى 25 يناير وثورة 1919 وفى الثورة العرابية وفى أغلب الثورات المصرية، وهذا لا يعنى أن فهمهم للأمر صحيح، فلا توجد لديهم فكرة الثورة الدائمة فهم يثورون ثم يعودون لكى يبنوا بلادهم من جديد، والشعوب صاحبة الحضارة تملك فلسفة للحياة وخبرة وحكمة، ويظهر ذلك فى الأمثال الشعبية، المصريون يملكون ذكاءً فطريا خلَّاقا، وما حدث فى 30 يونيو دليل على ذلك، فلم أتوقع أن يثور المصريون على الإخوان، وأن ينهوا حكمهم خلال عام واحد، وهذا دليل على ذكاء المصريين الذى كشف تجَّار الأديان. ■ ما تقييمك لكتابات الثورة؟ - كل ما تم كتابته حتى الآن هو تدوينات عن الثورة، وهو تدوينات محمودة، وينبغى أن نشجّع عليها، لكن الكتابة تحتاج إلى جمع الوثائق والشهادات ومذكرات مَن خاضوا الثورة، ليبدأ المؤرخون كتابتهم، علما بأن الكتابة تحتاج إلى شهادة المسؤولين فى ذلك الوقت، وقد تعجَّبت كثيرا عندما تعرض زميلنا محمود مسلم لهجوم شديد بعد نشره حوارا مع الدكتور فتحى سرور، وهذا خطأ لأننا فى حاجة إلى رواية هؤلاء وإلى رواية مبارك نفسه وزكريا عزمى، وكل مَن كانوا على المسرح السياسى، لأن تاريخ الثورات ليس مصدره الوحيد الثوار، فالمذكرات شهادة شخص والثوار يكذبون أحيانا، علما بأننى أضع فى اعتبارى أن هذا الشخص سيبرر أخطاءه، لكن ليس معنى ذلك أن كل ما قاله خطأ وليس صحيحا، وهذه مصادر للتاريخ، وثورة يناير تحتاج إلى وقت لا يقل عن 50 سنة حتى نتمكَّن من رؤيتها رؤية صحيحة، وكل ما كتب شهادات وانطباعات بالغة الأهمية، لكنها ليست تاريخا، وكل ما نملكه هو الدفع بكل الأطراف أن تكتب شهادتها، هناك وثائق خاصة بثورة يناير لن يفرج عنها إلا بعد 30 عاما، وهى الوثائق البريطانية والأمريكية والفرنسية، لا يمكن كتابة تاريخ الثورة إلا بعد الاطلاع عليها. ما وجه التشابه بين ثورة 30 يونيو وثورة 1952؟ - فى تقديرى 30 يونيو تعكس إيمان الشعب المصرى بالدولة المدنية وإدراكه وتأييده لها، وتأييده لأسس الدولة المدنية التى بنى لها محمد على فى مصر، وهى التى جاء جميع الأطراف وأبقوا عليها، وكانت تمر بها فترات استبدادية، وأحيانا عادلة وأحيانا ظالمة وأحيانا ديمقراطية، لكنها فى كل الأحوال مدنية، وكل حكام مصر رسَّخوا ذلك، وقالوا بأن مصر دار المصريين جميعا. ■ ما رأيك فى أزمة فيلم «نوح»؟ - رأيى أنه لا يوجد فى الشريعة الإسلامية فى القرآن الكريم والسنّة الصحيحة أى نص يحرّم ظهور الشخصيات الدينية المقدَّسة، وهذا التحريم اجتهاد بشرى، لأن السينما والمسرح لم يوجدا خلال هذا الوقت، وموقفى واضح، وهذا المنع غير مقبول. ■ كان لك دور فى التغييرات الصحفية الجديدة وتعيين رؤساء تحرير الصحف القومية، وتم الإعلان عن هيئات جديدة تنظّم العمل الصحفى، فهل ستكون هذه الهيئات بديلا للمجلس الأعلى للصحافة؟ - هذا ما تضمنه الدستور الجديد، فهناك 3 مواد أهمها مادة لإنشاء المجلس الأعلى للإعلام، وهذا المجلس سيشرف على الإعلام المقروء والمرئى والإلكترونى الخاص والعام، وهو ما سيمنح إشارات البث ويتابع مادة الصحف ويتلقى الإخطارات لإصدار الصحف ويتابع مواثيق الشرف المهنية، بالإضافة إلى الهيئة الوطنية للإعلام، وهى مسؤولة عن الإذاعة المملوكة للدولة والهيئة الوطنية للصحافة، وهذه التركيبة للمجالس التى ستحل محل وزارة الإعلام ومحل المجلس الأعلى للصحافة. ما المعايير التى تم من خلالها اختيار رؤساء الصحف القومية الجدد؟ - أهم هذه المعايير أن يكون المتقدِّم عضوا مقيدا فى جداول المشتغلين فى نقابة الصحفيين، وأن يكون قد سبق له وشارك فى إدارة الصحف، وأن لا يكون قد صدر ضده أى حكم يمسّ الشرف، ويكون حسن السير والسلوك، ولم يتورط فى أى شبهات مالية، ولم تصدر ضده أى أحكام تأديبية من نقابة الصحفيين، ولا يكون قد سبق أن خالف قرار نقابة الصحفيين بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن ينتمى إلى المؤسسة الصحفية التى تصدر عنها المطبوعة، وأن يكون صاحب خبرة فى هذا المجال، وأن لا يوجد تضاد مصالح بينه وبين الجريدة المرشح لرئاسة تحريرها، حيث يقوم بتقديم برامج تليفزيونية، وأن يحافظ على استقلالية المؤسسة إدارة مستقلة، بعيدة عن أى انتماء حزبى أو سياسى أو دينى. ■ وماذا عن تعيين 10 سيدات؟ - لا يعدّ ذلك عودة إلى نظام الحصة أو الكوتة، فقد تم الاختيار بناءً على الطلبات المقدمة والترشيحات من قِبل رؤساء التحرير السابقين، وكان من الممكن أن يكون جميع رؤساء التحرير نساءً، وهذا يشير إلى عدم العودة إلى قصر الصحفيات على تولى أمور المجلات النسائية. ■ وما رأيك فى الاتهامات التى وجهت إليكم، والتى قالت بأن اختياراتكم تمت بناء على تعليمات من الحكومة؟ - الاختيارات لم تكن بناء على أى انتماء حزبى أو سياسى، وكان من خلال التصويت بالاقتراع السرى المباشر، لم نجبر على أى مرشح، ولم نتلقَّ أى توجيهات من أحد أو تعليمات من أحد، وهذا كلام غير صحيح، وكلام فارغ. الناس لا تعرف أن الحياة تغيَّرت فى مصر، كل ما تم كان من اختياراتنا أصابت أم أخطأت، وكانت طبقا لمعايير خاصة، لم تتدخل حكومة ولا رئيس الجمهورية، ونحن نريد بذلك أن تكون الصحف القومية مستقلة حقا وتعبِّر عن الجماعة الوطنية، وأن تكون ساحة للحوار الوطنى، نريد صحافة قومية تكون فى خدمة القارئ، ويجب أن نحمى الصحفيين فى هذه المؤسسات لكى لا يكونوا كرة بين الأحزاب السياسية، يتحكم فيهم أى حزب يتولى الحكم، وأن يكون انتماؤهم الأول إلى الشعب. ■ تترأس جريدة ثقافية هى «القاهرة»، ما رأيك فى كتابات الشباب؟ - مصر مليئة بالمواهب، وكتّابها فى حالة من التطور، لأن الشباب يتعلم كثيرا من الأجيال السابقة، الشباب يواكب الحالة الثقافية، والدولة تتقبَّل هؤلاء الكتاب، وتسعى لمساعدتهم.