كنت فى الرابعة عشرة من عمرى حين زار الأستاذ خالد محمد خالد مسجد العشيرة المحمدية فى احتفال ثانى أيام عيد الفطر المبارك، ولهذا الاحتفال مكانة خاصة لدى أبناء العشيرة وشيخهم الشيخ محمد زكى إبراهيم، إذ كان يقول شيخنا إن أول أيام العيد للأهل والأقارب وصلة الأرحام وعادة يخصص العوام ثانى أيام العيد للتنزه وارتياد الحدائق والبساتين، أما نحن فلنا بساتيننا وحدائقنا ولنا أعمالنا وأحوالنا الخاصة. «فالصوفى أكثر من فقيه، فالفقيه وقف عند الأقوال، والصوفى أكثر من عابد، إذ العابد وقف عند الأعمال، أما الصوفى فقد جمع بين الأعمال والأقوال فأثمر الأحوال. والصوفى أكثر من زاهد، إذ الزاهد فى الدنيا زاهد فى لا شىء، أما الصوفى فلا يزهد إلا فى ما يحجبه عن الله، وبهذا يجعل الدنيا فى يده لا فى قلبه». وكنت فى سعيى لبلوغ هذه المنزلة حريص على ملازمة العلماء ومجالسة أهل الطريق فجاءنى الأستاذ خالد محمد خالد بين حضور هذا الاحتفال، ولم أكن أعرف منه سوى كتاب «رجال حول الرسول»، وما قرأته عن كتابه الأشهر «من هنا نبدأ»، والكتيب الآخر «مواطنون لا رعايا» الذى التقطته يداى من سور الأزبكية. قدم الشيخ محمد زكى إبراهيم الأستاذ خالد محمد خالد الذى تحدث بروح صافية وعبارات جزلة عن روح الإيمان وجوهره وعن التصوف الحق الذى هو كما علمنا شيخنا «مقيد بأحكام الكتاب والسنة، وهو علم وعمل وخلق وعبادة وجهاد ودعوة» يترك خالد محمد خالد فى نفسى أثرا عميقا فأتتبع كتاباته، ومن بينها محمد والمسيح. الذى اختار خالد محمد خالد أن يكتب على غلافه: «الأنبياء إخوة.. أمهاتهم شتى ودينهم واحد»، والكتاب كما يقول فى مقدمته ليس تأريخا للمسيح ولا تأريخا للرسول، فتاريخهما قد بسط بسطا لا يشجع على التكرار، وإنما هو تبيان لموقفيهما من الإنسان ومن الحياة أو بتعبير أكثر سدادا موقفيهما مع الإنسان ومع الحياة، «فالمسيح حين أحاط به لؤم الكهنة وكيد الكائدين دعا قائلا: اغفر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون». والرسول قال ودمه يتفجر تحت قسوة الحجارة التى يقذف بها من كل جانب «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون». هى ذات الرسالة وذات القانون العام الذى يصنع على شاكلته هذا الطراز الجليل من الهداة، فمن أجل هداية الإنسانية جاءا ومن أجل تحرير الإنسان انطلقا بدعوتيهما، فعيسى يقول أنا ابن الإنسان، ومحمد يقول أنا بشر مثلكم. والمسيح ينهى من أطرى صلاحه فيقول له: «من قال إنى صالح؟! ليس من أحد صالح سوى واحد هو الله، وينهى الرسول أصحابه حين يقولون له: أنت سيدنا، ويقول لهم: لست سيدا لأحد إنما أنا عبد الله ورسوله». يمضى خالد محمد خالد فى كتابه ليعلم أتباع الديانتين أن الرسولين الكريمين شربا من نفس النبع انتصارا لقيم عليا، وأن الصراع الذى يريده البعض بين الفريقين ليس فى مصلحة أحد إلا أولئك الذين حاربوا المسيح وحاربوا محمدا. ينتصر النبى محمد للإنسان ويحرر الذكاء الإنسانى من رواسب الرؤى المغلوطة والأساطير الموروثة، لقد خسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله. وقال أصحابه: «إن الشمس خسفت لموت إبراهيم»، لكن النبى الذى جاء ليخلص الإنسان من أى مظهر من مظاهر العبودية، يقول: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته». ومثل هذا الموقف العظيم موقف المسيح حين جاءه «يايرس»، رئيس المجمع، يتوسل إليه كى يذهب إلى ابنته التى ماتت ليرد إليها الحياة، ويدخل المسيح على البنت، وأهلها حولها ينوحون، ويلقى المسيح نظرة على الفتاة فيتحرك الجسد تحت غطائه وتتحول الضجة الباكية الحزينة إلى دهشة وصياح «إن المسيح أحياها»، ولكن الصادق العظيم يشير إليهم بكفه المضىء، قائلا: «إنها لم تمت لقد كانت نائمة»، لقد انحاز الرسولان إلى الفقراء والمساكين إذ نسمع المسيح، يقول: «روح الرب مسحنى لأبشر المساكين.. أرسلنى لأشفى منكسرى القلوب.. لأنادى للمأسورين بالانطلاق.. وللعمى بالبصر.. وأرسل المنسحقين فى الحرية». ذات المعانى جاء بها وأكدها الرسول محمد عليه صلوات الله وتسليمه فقد كان يستطيع أن يحيا حياة أرغد بنصيبه من الفىء والغنائم والهدايا التى لا تنقطع، لكنه أبى لا حبا فى الجوع ولا اختيارا للفقر، ولكن مشاركة للأكثرية ومعاناة لما تعانيه، إذ تقول السيدة عائشة: «كان يأتى علينا الشهر ما نوقد فيه نارا.. إنما هو التمر، والماء». وتقول ما شبع آل محمد من خبز ثلاثا حتى مضى لسبيله، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لقد أخفت فى الله ما لم يخف أحد، وأوذيت فى الله ما لم يؤذ أحد، ولقد أتى علىّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لى ولبلال من الطعام إلا شىء يواريه إبط بلال». لم يكن موقف الرسول محمد والمسيح عيسى تمجيدا للفقر بل كان تكريما للكادحين وإعزازا للبساطة وتوقيرا للرجل العادى الذى هو الأمة والشعب هكذا كتب خالد محمد خالد فى كتابه عن محمد والمسيح، وبهذا يؤمن السادة الصوفية، ولهذا حديث آخر فى الأسبوع المقبل.