بصوت غليظ, وقف الشيخ ذو الوجه الجامد يصرخ فى المصلين» يا أمة محمد, هؤلاء النصارى مشركون.. أعيادهم، وموتاهم، وزواجهم حرام, يا أيها المؤمنون هؤلاء القوم لا يحبونكم فقاتلوهم.. فى الناحية الأخرى كان كاهن الكنيسة المقابلة للمسجد يلقى عظة « مصر يا أبناء الرب، بلدنا، وهؤلاء المسلمون غزاة، ونحن ضعفاء، ولا مفر من حماية أجنبية.. أبنائى لا تأمنوا لمسلم ولو قدم لكم الخير». خرج أحمد ومرقص, هذا من المسجد وذاك من الكنيسة, فنطر كل منهما للآخر نظرة ملؤها الكراهية والبغض, فشب بينهما شجار دام, أسرع إليهما الجد إبراهيم, وكان قد علم بأمر ما قيل فى الكنيسة والمسجد, فطلب من الشابين أن يجلسا إليه ليسمعا حكايته. بسماحة وجه, سأل الجد أى منكم يعرف أمرا مشتركا بين محمد وعيسى عليهما السلام؟!».. لم يفتح أى منهما فمه, فأكمل الجد: «إذا اسمعا ما جاء فى كتاب الدكتور خالد محمد خالد وعنوانه معا على الطريق - محمد وعيسى, وهو واحد من أبدع ما ألف الكاتب الراحل , وهو كتاب يقول لدعاة الفُرقة , هاهما القائدان العظيمان يشيران للطريق ذاته ويدعوان للمعانى نفسها؛ لأنهما رأيا نفس النور وشرِبَا من نفس النبع؛ فلماذا الفُرقة والطريق واحد؟! مضيفا : يقول الجد «ويا ولدى إن رحمة الله ببنى الإنسان تتجلى فى إرساله لهم جميعاً أخوين حميدين، جاءا لتلخيص دعوة الخير كلها، وأعطياها إطارها الديني، وتعبيرها النهائي.. «عيسى» ابن الإنسان، و«محمد» رحمة الله للعالمين. جاء عيسى ومحمد لينيرا الطريق للعالم كله..فالمسيح عيسى ابن مريم جاء حين كانت فلسطين أرضاً يتحمل شعبها أذى وعذاباً بالغاً من المحتلين الرومان، من تعذيب وجباية أراض وضرائب واستعباد؛ مما جعلهم فى شوق لظهور مُخلّص بين لحظة وأخرى. مواصلا , بينما الابتسامة لم تفارق وجهه, قال الجد :«انظروا رحلة «المسيح» عليه السلام، لتخليص العالم من كل هذا الظلم، ولنشر الحب والعدل فيه، لنبدأ المشهد بنبى الله «يحيى» عليه السلام؛ الرجل المتبتل الأشعث الأغبر الذى يرتدى ثوباً من الصوف، ويعيش على عسل النحل وعلى الجراد الجاف. كان يساعد الناس على التوبة ويندد بنفاق الكهنة، وجهر بين الناس برسالته: «توبوا.. لأنه قد اقترب ملكوت السموات». وطار بين البلاد نبؤه، وكثر سعى الوافدة إليه، ويَعرف «عيسى» عليه السلام بأمره، ويتهلل كلما سمع خبراً عنه. ويشد «المسيح» رحاله مع أول قافلة لرؤية سيدنا «يحيى» الذى كان يسكن بعيداً عن أورشليم.. وهناك يسأل الناس سيدنا «يحيى»: «هل أنت «المسيح» الذى بُشّر بمجيئه؟»فيردّ سيدنا «يحيى» بحسم وسرعة:«لست أنا المسيح.. أنا أعمّدكم بماء؛ ولكن يأتى من هو أقوى مني، من لست أهلاً لأن أحل سيور حذائه». ينظر أحمد الى مرقص وهما مندهشان, بينما الجد إبراهيم يكمل كلامه» وحين يتقدم «المسيح» إليه طالباً منه أن يعمّده بماء، ينظر سيدنا «يحيى» إليه نظرة غريبة قائلاً: «أنا محتاج أن أتعمد منك، وأنت تأتى إليّ»!.. وبعد وقت ليس بطويل يأتى جنود الرومان ليعتقلوا سيدنا «يحيى»، ويعود «المسيح» إلى الناصرة بروح غير التى غادرها بها، لا تشغله حرفته التى يكسب منها عيشه ف «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»؛ وإنما يشغله ذلك الدور الجديد الذى يُحس أنه دُعى لأدائه. وفوق مكانٍ عالٍ فى بيت لحم وقف يبلغ الناس أولى كلمات الحق:«قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا، وآمنوا بالبشرى». عمت السكينة الجميع, وما زال الحديث دائرا « كان العرب متناثرين فى الجزيرة العربية، فى حياة اجتماعية جامدة ثابتة لا تتغير. وفاى مكة (أم القرى) كانت الكعبة (قبلة العرب) للحج تزاحمت حولها الأصنام التى عبدها الناس كبيرهم وصغيرهم.. وكانت الجزيرة العربية محاصرة من الشمال والجنوب بقوتين هما الأكبر وقتها: الفرس والروم. وبعد ميلاد «المسيح» بقرابة خمسمائة وسبعين عاماً جاء إلى الوجود أعظم أبنائه شأناً وأكثرهم براً وأهداهم سبيلاً؛ «محمد» صلى الله عليه وسلم. كان الناس يعكفون على أصنام لهم، و يقترفون جل الآثام إلى أن يأذن الله لخير البشر محمد بن عبد الله بحمل أعظم رسالة، متكبّداً فى سبيلها وأصحابه كل تضحية وبذل وعناء تاركين للإنسانية أعظم الدروس والعِبر، إلى أن أعزّ الله دينه وأظهره على الدين كله. يقول الجد :«فى طريق كل من «المسيح» و«محمد» أغراض وأهداف سعياً لتحقيقها، ولم يكن ما سعيا إليه مجرد شعائر ومناسك وعبادات؛ فكانت رسالتهما الأكبر هى إنهاض الإنسان وإزهار الحياة.. لقد جاء «المسيح» ومثله رسول الله «محمد» كل منهما لينيرا الطريق للعالم كله.. عيسى ابن مريم يقول:«لقد جئت لأخلّص العالم», ومحمد بن عبد الله يقول:«إن الله أرسلنى للناس كافة، وأرسلنى رحمة للعالمين», وهو ما حدث؛ إذ تنتشر الديانتان المسيحية والإسلام اليوم فى كل الأرض. يا ابناى ترى كيف نظر محمد وعيسى.. إن أول ما يبهرنا فى عنايتهما بالإنسان؛ ذلك الترديد الممعن لاسمه، والحفاوة الصادقة به؛ ف«المسيح» ينعت نفسه بأنه «ابن الإنسان»: «إن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس؛ بل ليُخلّص»..ويتحدث القرآن الكريم عن الإنسان فيعطيه صفته الحقة كمحور لنشاط النبى وموضوع لرسالته:لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم. إن عيسى ومحمد لم يهتمّا بشيء مثل اهتمامهما بأن يحررا البسطاء من غفلتهم وسذاجتهم، ويحررا الذكاء الإنسانى من الرؤى المغلوطة والأساطير الموروثة.. فقد رفض الرسول «محمد» صلى الله عليه وسلم رفضاً قاطعاً تفسير الناس لكسوف الشمس يوم مات «إبراهيم» ابن الرسول؛ فقالوا إنها كسفت لموت «إبراهيم»؛ فرد عليهم بقوله: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته»، وللمسيح عليه السلام الكثير من المواقف المشابهة كذلك. وعن حقوق الناس يقول المسيح:«الذين يأكلون بيوت الأرامل، ولعِلَّة يطيلون الصلاة، والذين يظلمون الفعلة والحصادين؛ بينما صياحهم قد وصل إلى رب الجنود». أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجف عرقه».. وكان من أشد الأفعال إغضاباً له -عليه الصلاة والسلام- استحلال أموال الناس بالباطل؛ فقد كان يتسامح مع الكثير من الذنوب والأفعال إلا هذه. أما حق الضمير؛ فيعنى بالضمير هنا «الإنسان فى وجوده الحقيقي»؛ ف«المسيح» كافح كثيراً لتخليص الضمير الإنسانى من وصاية الكهّان، الذين كانوا يتقاضون الأجور لمنح السكينة والطمأنينة وإعطاء الحريات للناس الأحرار أصلاً، كل شيء بثمن حتى البركة. برقة يتحدث مرقص « جدى و ماذا عن الخطية»؟!..متبسما يقول الجد: «تأتى الخاطئة إلى «المسيح» يزفّها الكهنة والجلادون؛ فيلقى عليها نظرة يلمح فيها الضعف الإنسانى الكامن فى كل منّا، ثم يرفع بصره إلى أولئك القُساة، وقد أمسكوا بالحجارة الحادة تأهباً لرجمها؛ فيقول لهم كلمته المأثورة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر». فاحتواهم ذهول وخزي، وتمثلت لهم خطاياهم، و«المسيح» بهذا لا يُبيح الإثم؛ بل يعلّمنا أن الخطيئة نفسها جزء من الأغلال التى يرسف فيها وجودنا، وعلينا ونحن نحررها أن نفطمها عن نزواتها. وذات يوم أتى الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه، مستأذناً فى طرد واحد يعتقد أنه منافق يتظاهر بالإسلام ليؤذى المسلمين، ويخفى فى نفسه شرا،ً عارضاً على الرسول طرد ذاك الرجل؛ فيسأل الرسول صاحبه: «هلا شققت عن قلبه؟!».. الضمير فى شريعة «محمد» حرمة وحرية.. ويجهز الرسول صلى الله عليه وسلم على الوصاية على الضمير البشرى بإعلانه أن ليس لأحد وساطة بين العبدِ وربِّه. ويسأل أحمد «والحياة يا جدى.. كيف يراها عليهما السلام»؟..يقول الجد « إن رسالة «محمد» و«المسيح» ورسالة كل الأنبياء والمرسلين هى رسالة حياة.. حياة تعنى وجوداً حقيقياً وعادلاً لبنى الإنسان. والحب فى رسالة «محمد» و«عيسى» هى أوثق أشكال علاقتنا بالحياة، وهو الذى ينتصر فى النهاية رغم كل التناقضات التى تملأ قوانين حياتنا؛ فهذه طبيعتنا، وهو الذى يُكَفَّر به الخطايا، ويعود به العبدُ التائبُ إلى ربه، وتتصل به الناس بعد قطيعة. ويوصينا الرسول «محمد» صلى الله عليه وسلم قائلاً: «إذا أحب أحدُكم أخاه فليخبره بأنه يحبه». والصدق يمثل العلاقة الثانية التى نرتبط بها مع الحياة، ومكان الصدق من الحب جِدُّ قريب؛ فنحن نكذب حين نخاف، ومع الحب لا يوجد خوف، وبالتالى لا يوجد كذب؛ فالصدق ليس قول الحق وحسب؛ بل أن نعيش الحق نفسه كعلاقة تربطنا بالحياة، وهو يعنى تحرير أنفسنا من كل ما يجعلها تحيا حياة زائفة مزورة. ولقد علّمنا هذا «محمد» و«المسيح» عندما شنّا على الرياء هجوماً عنيفاً، وأخبر الرسول أن «ذا الوجهين، يُدعى عند الله كذاباً». يتنهد الجد وهو يواصل «أما لكى نفهم موقف كلٍ من «المسيح» و«محمد» من السلام، يجب أن نتأمل أولاً كونهما كانا مثالاً للرحمة والمسالمة طوال حياتهما، ف«المسيح» يبشر الودعاء بوراثة الأرض: «طوبى للوُدَعَاء لأنهم يرثون الأرض». أما موقف «محمد» فهو ذاته موقف «المسيح» فى تفضيل السلم والسعى له والنهى عن تكديره.. «من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً».