بدأت الصوم فى سن 4 سنوات.. وكنت أتبارى مع أقرانى فى ختم القرآن أكثر من مرة فى الماضى كان مَن يشترى الكعك من المخابز يوصم بالفقر أو انعدام الذوق احتفال «الختمة» فى ثانى أيام رمضان كان من أجمل مظاهر القرية المصرية.. لكنه اختفى الآن اختفى الاحتفاء القديم بشهر رمضان باستثناء بعض الأحياء الشعبية فى حوار خاص ل«التحرير»، أبحر الخبير الاقتصادى، صلاح جودة، فى ذكرياته عن شهر رمضان القديمة والجميلة، عندما كان فى قريته الصغيرة بالمنصورة، ثم انتقل إلى ذكرياته القريبة بعد التحولات التى مرَّت بها حياته، وتطرق إلى البعد الاقتصادى للشهر الفضيل، ومدى التكاليف الاقتصادية التى يتكبَّدها المواطن فى رمضان، وتحدَّث عن زيادة الأسعار وأسبابها، ثم عاد إلى ذكرياته القديمة وقارنها بالتحول الكبير فى التفاعل مع رمضان فى السنوات الأخيرة، مؤكدا أن التطور أمر مهم، لكن الأبعاد الإنسانية لا تختلف، فستظل العزومات قائمة وزيارات الأهل والأحباب لا تتوقف، وقد يخطئ البعض فى التعامل مع الشهر الفضيل ويتكبد تكاليف هو فى غنى عنها، لكن رمضان سيبقى ذا مذاق خاص، وروحانية لا تنتهى ولا تعوَّض، مهما وقعت تحولات اقتصادية واجتماعية، بل وسياسية أيضا، فى مصر. ■ «التحرير» رافقت الخبير الاقتصادى فى رحلته، وسألته: لرمضان ذكريات خاصة فى نفوسنا، وترتبط بميلادنا وطفولتنا ومنشأنا الأول، فماذا فى ذهنك من تلك الذكريات القديمة؟ - وُلدت فى قرية بلقاس بالدقهلية، وفى الريف المصرى يبدأ الطفل فى الصوم فى سن 4 أعوام، ويبدأ تدريب الأطفال بصيام نصف يوم، لكن يكون عليهم الصيام ليوم كامل، بدءا من سن 6 أعوام، وهذا أمر لا جدال فيه، وبدورى بدأت الصوم فى سن مبكرة شأن أغلب صبية القرية، وأتذكَّر أننا كنا نتبارى فى ختم القرآن أكثر من مرة، ونتباهى فى ما بيننا مَن قرأه مرتين أو ثلاث مرات، وكان السباق يشمل جميع الأطفال فى القرية، ويمتد إلى الكبار بدورهم، وإن كانت درجة التفاخر أقل، لإدراكهم أهمية أن تكون الطاعة بين العبد وربه. وفى أيام طفولتى كان رمضان يأتى دائما فى الشتاء، وكان يومه أقصر من أيام الصيف، فلم نشعر بحدة الصوم، كما هو الحال الآن. الخبير الاقتصادى، صلاح جودة، استرسل فى ذكرياته مستطردا: «ما أشتاق إليه هو احتفال ثانى أيام رمضان، فقد كان جدى كبير القرية، وفى مندرته كانت توجد قاعة لاستقبال الضيوف، وتستضيف ما يعرف ب«الختمة»، حيث يحضر المدَّاحون والمنشدون وقرَّاء القرآن المعروفو،ن لينشدوا ويقرؤوا، ويلقوا التواشيح على مسامعنا فى جو مبهج أشبه بعُرس احتفالى تحضره العائلة والأصدقاء وأهالى القرية، وفيه يتم توزيع الكنافة والقطايف، وغيرها من أكلات رمضان، وتستمر «الختمة» حتى السحور، وكانت هى خلاصة بهجة أيام رمضان الأولى وأكثر ما يُميّزها، وكنا ننتظرها فى لهفة لا مثيل لها، لكن هذا المظهر الاحتفالى الجميل اختفى، ولم يعد موجودا الآن، بعدما كانت «الختمة» أحد أهم مظاهر القرى الريفية القديمة، وكان صوت المداحين يتلألأ متصاعدا إلى عنان السماء، ويرفع الأذان بصوت يجعلنا نستمتع بالشهر الفضيل. ■ هل تغيَّر رمضان بالنسبة إليك بعد قدومك إلى القاهرة؟ - فى المرحلة الأولى عندما كنت أسكن فى شبرا الخيمة كان الأمر شبيها بالقرية، لكن الجديد كان أنى كبرت، وكنت أُتقن الفن الهندسى، وفى شبرا كان الأهالى يجمعون النقود لشراء زينة رمضان، وكنت أتعهد مع عدد من أصدقائى فى مختلف التخصصات، من نجَّارين ومتخصصين فى الألوان، بعمل الفوانيس، فقد كنت أرسمها على ورق مقوَّى، ثم نقطِّع الأشكال التى نرغب فيها، سواء أكانت فانوسا أو مسجدا، ونلصق عليها الورق الملوّن، ثم نجتمع فى الشوارع لتعليقها، وكانت كل منطقة تتباهى بزينتها. فى صحبتنا تلك كنا سعداء، وكان البعض ينظِّف الشوارع، ويعلِّق البعض الآخر الزينة، أما الآن فالوضع اختلف نسبيا، ولم يعد هناك الاحتفاء القديم بشهر رمضان، باستثناء بعض الأحياء الشعبية القليلة التى تحتفظ بمظاهر رمضان، ويحتفون باستقباله عاما بعد عام. أيضا كنت أهتمّ بدورات كرة القدم الرمضانية بشكل غير عادى، ولم أترك مكانا إلا ولعبت فيه، وكانت تلك الدورات تُقام قبل الإفطار للتسلية والترفيه، ومن خلالها جبت كل أحياء القاهرة وضواحيها، وحتى 4 سنوات مضت كنت مشاركا قويا فيها، وفى آخر 10 أيام من رمضان كان الاهتمام ينصبّ على عمل الكعك، وكان من المعتاد أن يُصنع منزليا، لدرجة أن مَن كان يقدم على شرائه من المحلات كان يوصف بالفقر، أو أن نساء بيته لا يجدن صنعه، أو أنه معدوم الذوق، وكان هذا حال أغلب الأحياء الشعبية. ■ كيف ترى الأسعار الآن؟ هل ترتفع مع قدوم رمضان أم تقل؟ - الأسعار مشكلة تؤرق المواطن البسيط، فهو يتلهف على كل جنيه قد يزيد أو يقل، ومع الأسف أسواق التجزئة متروكة لأهواء التجار، فيتحكمون فى السعر كيفما شاؤوا دون رادع، ويتحمَّل المواطن أعباء زيادة الأسعار دائما، ثم تتفاقم أزمته مع دخول شهر رمضان، لكن فى هذا العام فالأسواق تشهد زيادة فى السعر تقترب من 16%، وذلك نتيجة عدة أسباب، ومنها أن كميات المعروض فى الأسواق تزيد بنسبة 65%، مما يرفع الأسعر لتغطية تكاليف الاستيراد، بالإضافة إلى ارتفاع سعر الدولار خلال الفترة الأخيرة ووجود انفلات اقتصادى، نظرا لأن 63% من شركات الصرافة يتحكم فيها الإخوان، كما لا يوجد قانون يحدد الحد الأقصى لهامش الربح، فضلا عن أن الذراع التسويقية لوزارة التموين والتجارة -وهى المجمعات الاستهلاكية- لم تكن تحت سيطرتها، وكانت خاضعة إلى وزارة الاستثمار. قد لا تكون زيادة السعر ملحوظة لدى البعض، خصوصا ممن يشترون كميات كبيرة أو يذهبون إلى المحلات التجارية الكبرى، لكن المواطن البسيط هو الأكثر شعورا بتلك الزيادة، لأن زيادة نصف جنيه فقط ستؤثر عليه، لذلك سنجد البعض يشعر بالزيادة، بينما لا يلمسها آخرون، إلا أن حقيقة الأمر أن أغلب السلع الرمضانية تشهد زيادة فى السعر وصلت إلى 16%. ■ ما قيمة التكاليف الاقتصادية التى تقع على كاهل الدولة فى شهر رمضان؟ وهل يُسبب الشهر الكريم أزمة اقتصادية ويضيف إلى أعباء الدولة وميزانيتها؟ - لا نستطيع القول إنه عبء على الدولة، لكنه بالفعل يسهم فى زيادة التكاليف الاقتصادية، فمصر تستورد فوانيس فقط ب22 مليون دولار من الصين، أى ما يعادل نحو 145 مليون جنيه مصرى، والأزمة ليست فى المبلغ بقدر كونه يذهب إلى الاستيراد، فكان من الممكن أن نشترى تلك الفوانيس من المنتج المحلى، ونرفع دخل المواطنين، ونفسح المجال أمام الصناعة الوطنية. هذا بخلاف الإسراف فى الأكل، فمصر تستورد من الخارج بقيمة تصل إلى 75 مليارا، منها 70% سلع غذائية، ولدينا أيضا مشكلة الإسراف فى المسلسلات، فسيتم عرض 43 مسلسلا خلال هذا العام، تكلفة الواحد تتراوح بين 20 و30 مليون جنيه كحد أدنى، والأزمة أن إنتاج تلك المسلسلات ليس داخليا فى مدينة الإنتاج، بل إن نصف إنتاجها خارجى، والأموال التى تنفق عليها تضيف إلى الأعباء الموجودة بالفعل. نحن بحاجة إلى ترشيد الاستهلاك، لأن قيمة صيام رمضان هى الشعور بعناء الإنسان الفقير الذى لا يجد ما يأكله، والتقرب إلى الله عز وجل، لكن الحقيقة أن الموازين انقلبت، وأصبح رمضان موسما فى كل شىء، بدءا من الطعام والمسلسلات والأغانى والتسالى، وبات المواطن يحمّل نفسه ووطنه عبئا اقتصاديا كبيرا لا داعى له، حتى إن البعض بادروا بتخزين السلع قبل رمضان خوفا من التقشف أو ارتفاع الأسعار، مما تسبب فى أزمة حقيقية. لهذا أدعو الجميع إلى تحقيق القيمة المرجوّة من الشهر الكريم، والابتعاد عن الأمور المستحدَثة المبهرة فى ظاهرها، لكنها فى الباطن أعباء ثقيلة. ■ بعد تغيّر الحال، واختلاف رمضان الآن عما كان عليه قديما.. هل تشعر بتحول شخصى فى التعامل مع الشهر المبارك؟ - بالطبع أشعر بهذا، لأن التطور الإنسانى والاجتماعى والاقتصادى مستمر، فقديما كان هناك مسلسل واحد ينتظره المواطنون، بطولة شويكار وفؤاد المهندس، أما الآن فلدينا 43 مسلسلا. قديما كان ربّ الأسرة يأخذ أطفاله إلى صلاة التراويح، وأصبح هذا نادرا الآن نظرا لمشاغل الحياة، ورغم أن بعض هذه المشاغل جادة -مثل العمل وسواه- فإن أغلبها مشاغل غير جادة بالمرة مثل انتظار الضيوف، والمزيد من الإسراف فى الطعام، وتضييع الوقت أمام التليفزيون، ومشاهدة إعادة المسلسل نفسه 3 مرات أو 4، كما تقلصت مساحة الرياضة والدورات الرمضانية لكرة القدم حتى كادت تتلاشى، والدورات القليلة الباقية فى بعض الأحياء الشعبية تفتقد التنظيم والحضور الكثيف كما كان يحدث فى ما مضى. ولقد لاحظت أن الشهر الذى أريد فيه التقرب إلى الله عز وجل، وإعلاء ذكره فى المساجد والمنازل، وتقليل الطعام للتقرب من شعور الفقراء، يسير فى عكس الاتجاه، فبات البذخ عنوان رمضان، حتى إن الطعام الذى يعدّ فى موائد كبرى ينتهى إلى سلال القمامة، لأن الأسرة المصرية اعتادت طهو وجبات مختلفة يوميا، وبكميات تكفى 10 أسر إضافية بخلاف الأسرة نفسها، وهذا الإسراف الرهيب لم يكن موجودا فى ما مضى، لأن الأهالى كانوا يوزّعون أطباق الطعام والحلوى على جيرانهم، مما يبعث جوا من الألفة والتقارب، والأمر نفسه حدث فى ارتياد المساجد الذى لم يعد كما كان قديما. ■ ما طقوس أسرتك خلال شهر رمضان المبارك؟ وهل تغيرت كثيرا بفعل الزمن؟ - شخصيا.. أنا لا أُدخن ولا أشرب إلا كوب نسكافيه واحدا فى اليوم، وأتناول وجبة الغداء فى تمام السابعة مساءً أو الثامنة، ولا أُفطر، وبالتالى يومى خلال الصيام لا يختلف كثيرا عن أيامى العادية، لكن على الجانب الأسرى فأنا أب لابنتين، أولاهما فى الثانوية العامة، والثانية فى الإعدادية، وزوجتى توفَّاها الله، واليوم الأول من رمضان مقدَّس منذ زمن بعيد فى أسرتنا، حيث نمضيه فى البيت الكبير مع إخوتى والأهل لنفطر معا، وباقى الشهر تتنوَّع فيه العزومات، وعندما يحين الدور على أسرتى فى العزومة غالبا ما نطهو وجبة سمك، وآخر 6 أيام من رمضان أمضيها فى أداء مناسك العمرة. مصر لن تفلس ولكنها فى مأزق اقتصادى كبير كيف ترى قضية التوقيت الصيفى وتغييره فى شهر رمضان؟ وهل له تأثير اقتصادى؟ وما أهمية عودة التوقيت الشتوى فى الشهر الكريم، ثم تغييره بعد انتهائه؟ - العالم يتكوَّن من 193 دولة، منها 3 دول فقط تستعمل التوقيت الصيفى، وهى مصر والجزائر وأوروجواى، ولا يوجد هدف من تغيير التوقيت لا فى شهر رمضان ولا غيره، لكنه تخبّط قرارات الحكومات، مع الأسف، والتوقيت الصيفى كان تقليدا قديما للحكومة، ورغم أن واضعى القرار رحلوا فإن كل حكومة لا تزال تتبع التقليد القديم، ولا يدركون أن الخطأ لا يتبع.. وقديما كان الكفار يعبدون العجوة، وعندما يجوعون يأكلونها، وجاء الإسلام ليعلِّمنا أن هذا شرك، وأن هناك الله الواحد الأحد، فعدلنا عن عبادة العجوة، وهذا ما لا يفهمه القائمون على الأمر فى مصر، فما زالوا يتبعون نفس السياسات القديمة، شخص ما أخطر رئيس الحكومة أن التوقيت الصيفى يوفِّر الكهرباء والطاقة، لكن لم يتم استشارة خبراء فى الأمر، وبالفعل.. التوقيت الصيفى غير مؤثر على الإطلاق ولا قيمة لتغييره، بل على العكس يعود على الإنسان بنتائج ضارة، فتغيير الساعة البيولوجية للمواطن يؤثِّر على قدراته البدنية والعقلية، وبالتالى يقلّ إنتاجه. وفى رمضان أعادوا التوقيت مرة أخرى، وأعلنوا أن السبب هو إشعار الناس بقصر فترة الصوم، وهذا أيضا كلام غير صحيح، لأن الصيام مرتبط بحركة الشمس، ولا علاقة له بالوقت، وإلا لغيّر كل شخص ساعته وأفطر كما يريد، والنتائج فى النهاية مجرد إرهاق وتغيير الساعة البيولوجية. نستورد فوانيس من الصين ب22 مليون دولار.. وهذا عبء اقتصادى شهر رمضان هذا العام مرتبط بحديث عن أزمة اقتصادية طاحنة وظروف صعبة، كيف ترى الوضع الاقتصادى فى مصر؟ - مصر لن تفلس، وهذا أمر منتهٍ، لكنها فى مأزق اقتصادى كبير، حيث بلغ الدين الداخلى 1650 مليار جنيه، والخارجى 50 مليار دولار، أى ما يعادل 350 مليار جنيه، ولدينا 13% بطالة، والاحتياطى النقدى لا يتجاوز 17 مليار دولار، أما عن الوارد والصادر فمصر تصدر من 23 إلى 25 مليار دولار، وتستورد 75 مليار دولار، و70% من الاستيراد سلع، فضلا عن أننا نستورد أشياء غير ضرورية تكلِّف الدولة الملايين سنويا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «ماجات الشاى» التى يكلّفنا استيرادها 35 مليون دولار، و«أساتك النقود» نستوردها بقيمة 1.8 مليون دولار، والأدوات المكتبية، وغيرها، وابتعدنا تماما عن الإنتاج المحلى، ولا يوجد أى محاولة من الحكومة لمحاباة المنتج المحلى على حساب المستورد، لكن العكس هو ما يحدث، نحن فى دولة بلا رؤية، وفى حاجة إلى إرادة سياسية قوية، وإدارة رشيدة للموارد. هل ترى أن هناك أزمات متعلقة بالغذاء فى رمضان، سلع تقل أو تحتكر؟ - نحن نستهلك كميات كبيرة من السلع طوال شهر رمضان، لكن هناك طقوسا بدأت تختفى من البيت المصرى كإعداد الخبز مثلا، فقد كانت النساء قديما، خصوصا فى القرى، يقمن بإعداده بأنفسهن فى المنزل، وكان شراء الخبز من الشارع جريمة وعار يلحق بمَن يقوم به، وبالطبع أدى هذا إلى عودة أزمة قش الأرز، فزراعة الأرز كانت موجودة وستظل قائمة، لكن النساء يعتمدن الآن على الأفران الخارجية، ولم يعدن يصنعن الخبز فى المنزل، وبالتالى قل استخدام قش الأرز فى الأفران المنزلية، وبالتالى تتفاقم المشكلة يوما بعد يوم. الأمر نفسه يحدث فى ما يتعلق بكعك العيد، فلم تعد النساء يكبدن أنفسهن عناء صناعته فى المنزل، وهذا أيضا كان أحد المظاهر القوية للعيد ولقرب انتهاء الشهر الفضيل، ففى القرى كانت النساء يجتمعن معا ويصنعن الكعك فى منزل مختلف كل يوم، وهكذا حتى يصنعنه للجميع، وكانت الفرحة تعمّ كل البيوت، أما الآن فالجميع يلجأ إلى المخابز لشرائه، وبالتالى تتحمَّل ميزانية الأسرة مزيدا من التكاليف والأعباء، ويترتب على الأمر مشكلات ذات أبعاد قوية، كمشكلة قش الأرز، وغيرها من المشكلات.