يقرر توماس بيكيتى فى كتابه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» أن قوانين النمو الاقتصادى وتركيز الثروة وزيادة نصيب رأس المال على حساب العمل تمثل جميعا اتجاها أصيلا فى حركة قوى السوق. فالسوق هى بالأساس المسؤولة عن التفاوت الاقتصادى والاجتماعى بين أصحاب الثروة وأصحاب العمل. لكن هذا التفاوت لا يستمر هكذا على حاله إلى ما لا نهاية. فهناك قوى سلبية وعوامل وقائية تُذكرنا بقوانين نظرية عالم الاقتصاد والسكان البريطانى توماس مالتوس فى السكان، والتى يعزو فيها الأمراض والمجاعات إلى أن معدل نمو السكان يفوق بكثير معدل نمو الموارد الاقتصادية المتاحة للاستغلال البشرى. فالسكان يزيدون بمتوالية هندسية، فى حين أن الموارد المتاحة تزيد بمتوالية عددية. ويقود التفاوت بين معدلى النمو إلى أمراض ومجاعات، ينتج عنها انخفاض كبير فى أعداد السكان بما يعيد التوازن مرة أخرى فى العلاقة بين الناس والطبيعة. وفى حالة بيكيتى فإن التفاوت الاجتماعى والاقتصادى يقود إلى حروب وثورات وقلاقل اجتماعية وأزمات اقتصادية ينتج عنها تدمير نسبة كبيرة من الجهاز الإنتاجى والبنية الأساسية ومن مقومات الثروة بشكل عام. وبسبب ذلك تعود نسبة رأس المال إلى الدخل إلى مستوى منخفض كثيرا عما كانت عليه من قبل. تذكروا هنا ما حدث منذ ثورة يناير عام 2011 حتى الآن. خلال أشهر قليلة خسرت البورصة (وهى واحد من أعمدة الثروة الرأسمالية) ما يقرب من نصف قيمة الأصول الرأسمالية المتداولة فيها، وهو ما أسهم ضمن متغيرات أخرى إلى انخفاض نسبة رأس المال من الدخل القومى الإجمالى. تذكروا أيضا (تاريخيا) ما أدت إليه كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية من دمار فى أجهزة الإنتاج وفى الثروة، وهو ما أدى إلى انخفاض حاد فى معدل الثروة إلى الدخل، وكذلك ما حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 عندما حدث الشىء نفسه تقريبا. هناك إذن ما يكافئ العوامل الوقائية المالتوسية فى نظرية بيكيتى. غير أن المفكر الاقتصادى الفرنسى ينبه العالم إلى حقيقة أن البشرية لا تتعلم من أخطائها، وإنما هى بوعى أو دون وعى تقوم بتكرار هذه الأخطاء! فما إن انقشع غبار الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة حتى عاد نصيب الثروة الرأسمالية إلى الزيادة بمعدلات عالية جدا ومتسارعة كأنما يسعى رجال الأعمال وأصحاب الثروة إلى تعويض نصيبهم الذى فقدوه خلال ثوان معدودات. وقد كان. وتوضح الإحصاءات التى قدمها بيكيتى فى كتابه، وما أسفرت عنه الدراسات التى أجريت بعد نشر الكتاب فى طبعته الفرنسية أن معدل تراكم الثروة لصالح الأثرياء يتزايد بسرعة صاروخية فى الولاياتالمتحدة بمعدلات تفوق غيرها من الدول الرأسمالية، التى تعرضت للأزمة الاقتصادية الأخيرة. وقال توماس بيكيتى، فى محاضرات أخيرة له فى الولاياتالمتحدة، إن الدراسات التى أجراها علماء الاقتصاد إيمانويل سيز وأنطونى أتكينسون وجابرييل زقمان تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن تركز الثروة فى الولاياتالمتحدة حاليا عاد إلى ما كان عليه فى القرن التاسع العشر فى ظل سيادة المجتمع البطريركى الأوليجاركى، الذى يُكرس سيطرة القلة على الدولة، وينفى عن المجتمع طابعه الديمقراطى. إن النتائج التى توصل إليها توماس بيكيتى هى جرس إنذار للولايات المتحدة وللعالم كله من استمرار خطر التفاوت والآثار المدمرة، التى يمكن أن تنتج عنه. وحرى بنا فى مصر أن نستمع إلى هذا التحذير الذى أطلقه بيكيتى، لأن هذا التحذير يترافق مع وقت تتطلع فيه مصر إلى عبور فجوة التفاوت التى تسببت فى قيام ثورتين خلال ثلاث سنوات، وما ترتب عليه ذلك من انهيار معدلات النمو واتساع نطاق البطالة وزيادة الهوة بين ثروة الأغنياء وبين دخل الفقراء. إن بيكيتى فى دراسة له عن توزيع الدخل فى فرنسا ينبه إلى أهمية دور الدولة فى وضع سياسات تقلل من سوءات توزيع الدخل بواسطة قوى السوق. فدور الدولة مطلوب لخلق التوازن والحد من التفاوت من خلال سياسات مترابطة ومتنوعة تتضمن رفع مستويات الأجور وفرض ضرائب تصاعدية على الدخول الأعلى وتقديم سياسات اجتماعية (تعليمية وصحية وتعويضية) تسمح برفع مستوى نوعية الحياة للفئات الأفقر من المجتمع، التى تحصل على نصيب متواضع من الدخل القومى. وكان بعض الاقتصاديين قد سبقوا بيكيتى إلى ذلك مثل كروجمان وستجليتز. لكن الإسهام الأكبر الذى يقترحه بيكيتى لعلاج الخلل ومكافحة التفاوت بصورة بنيوية يتمثل فى فرض ضريبة عالمية تصاعدية على الثروة. إن مثل هذه الضريبة من وجهة نظر بيكيتى هى السلاح الحاسم لمكافحة الخلل، وإن كان كثيرون من الاقتصاديين، مثل روبرت سولو وبول كروجمان ودانى رودريك وغيرهم، يشككون فى فاعلية مثل هذه الضريبة على المدى الطويل. ومع ذلك فإن جوزيف ستيجليتز (نوبل 2001) يقرر بقوة فى محاضرة ألقاها فى مارس الماضى فى بروكسيل أن الإصلاح الضريبى يمثل مفتاحا رئيسيا من مفاتيح الحد من التفاوت وإعادة قدر كبير من التوازن إلى عملية توزيع الثروة التى تتسبب قوى السوق فى تشويهها باستمرار.