خشيت حين قطعت سلسلة مقالاتى عن «تحولات الشخصية المصرية» لكى أشير إلى الثورة المعرفية الكبرى في علم الاقتصاد التى أحدثها نشر الاقتصادى الفرنسى «توماس يكيتى» لكتابه «رأس المال في القرن العشرين» ألا يرحب قرائى الكرام بالتعليق على ما كتبت. وقد أسعدنى أننى تلقيت تعليقات غاية في الأهمية على الصعيد النظرى وعلى الصعيد العملى على السواء، وذلك لأن أزمة الرأسمالية لا تمس الولاياتالمتحدةالأمريكية والبلاد الغربية فقط بل إنها تمس العالم كله بسبب العولمة الاقتصادية. والواقع أنه على عكس ما ذهب إليه الدكتور «على فرج» في تعليقه التفصيلى المهم لم يكن مقالى «ترفيها للعقل وحسب» أو أنه كما قال- نظرى فيما يخص بلادنا، لأننا نعيش في ظل نظام اقتصادى عالمى تصدق عليه «نظرية الفراشة» الشهيرة التى تقول إذا رف جناح فراشة في البرازيل قد تهب عاصفة في الصين! والدكتور «على فرج» في ملاحظاته القيمة التى تستحق التأمل يشير إلى النظرية التقليدية التى تقول إن الديناميكية الذاتية في النظم الرأسمالية وارتباطها المباشر بالديمقراطية تعطى مؤشرات لما يؤثر بالسلب والإيجاب في تلك الأنظمة». والواقع أن هذه العبارة تتضمن أحكاماً قاطعة ثبت من الممارسة العملية أنها غير صحيحة على وجه الإطلاق. فقد تبين أن الديناميكية الذاتية للنظم الرأسمالية التى سبق «لآدم سميث» أن عبر عنها «باليد الخفية» التى توازن السوق خرافة ليس لها أساس. أما ارتباط الرأسمالية بالديمقراطية التى رأى فيها الدكتور «على فرج» طوق نجاة الرأسمالية حين تدخل في أزمة، فهى الفكرة الجوهرية التى وجه إليها سهام نقده « يكيتى» في كتابه رأس المال في القرن العشرين. لأن يكيتى- بعيداً عن مزاعم الديمقراطية في ارتباطها بالديمقراطية- أثبت بصورة إحصائية بالغة الدقة أن العائد من رأس المال بكل أنواعه- ومنذ الثمانينيات ينمو بصورة أسرع من نمو معدلات النمو. ومعنى ذلك أن العشر من السكان الذين راكموا ثرواتهم الفاحشة من الميراث والتراكم الرأسمالى يحصلون على أضعاف ما يحصل عليه الذين يعتمدون على أجورهم فقط. ومعنى ذلك كما أكد يكيتى- أن الاتجاه الصاعد يميل إلى تركيز الثروة في يد القلة مما سيجعلهم يركزون السلطة السياسية في أيديهم، وبالتالى يسقط النموذج الديمقراطى ويتحول الحكم إلى «أوليجاركية» صريحة، أى حكم القلة الذين سيتحكمون في غالبية الشعب. من هنا يمكن القول إن العلاقة الوثيقة بين الرأسمالية والديمقراطية قد انتهت إلى الأبد! ويعرض الدكتور «على فرج» في فقرة مهمة من تعليقه ل محاولات أنصار الرأسمالية لا إنقاذها من أزماتها مثل التحديث الدورى للوائح تبادل رأس المال في البورصة، وأهم من ذلك التجديد المستمر للمنتجات وتغييرها مما يجعل السلوك الإنسانى ديناميكيا ولا يكون سكونياً. وهذه الإشارة المهمة تشير في الواقع إلى خطورة سلوك الشركات الكبرى في اصطناع «ماركات» جديدة يروج لها عن طريق الإعلانات العالمية الجذابة وتساعد على زيادة حجم الاستهلاك الترفى غير المنتج، ليس فقط لدى الطبقات الميسورة بل لدى الطبقات الفقيرة التى تقلد تقليداً أعمى سلوك الطبقات الغنية. ولا شك في صواب ملاحظات الدكتور «على فرج» في أن الأزمة المالية الأمريكية ضربت بعنف شديد الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة، غير أن الديمقراطية الفاعلة على عكس رأيه- لم تستطع أن تنقذ الرأسمالية لأنها لم تخرج حتى الآن من آثار الأزمة. وهذه المناقشة التى سقناها ليست بعيدة عن اهتماماتنا في مصر. ذلك أنه على النظام السياسى الجديد أن يكشف بوضوح عن نظريته في مجال الاقتصاد، بأن يبين حدود تدخل الدولة في الاقتصاد، حتى لا يستمر الوهم القائل إن السوق من طبيعته أن يوازن نفسه بنفسه! ويعقد الدكتور «محمد الشاذلى» مقارنات مهمة بين الرأسمالية والاشتراكية، ويرى أن الأخيرة قد أفلست لأنها عجزت عن إشباع حاجات الناس، وأن الرأسمالية أكثر فعالية لأنها تعتمد على التجديد التكنولوجى وحرص أصحاب رءوس الأموال على زيادة أرباحهم. ويرصد الدكتور «الشاذلى» عن حق- الاتجاه العالمى حتى في الدول الاشتراكية صوب تطبيق الأساليب الرأسمالية، وربما كانت الصين هى النموذج الأمثل في هذا المجال. ورغم صحة هذه الملاحظات فإنه يمكن القول إن مصير الرأسمالية - بحكم القوانين الاقتصادية التى كشف عنها «توماس يكيتى»- أصبح واضحاً وهو نسف الديمقراطية كنظام سياسى، وتولى قلة من كبار أصحاب الثروات مقاليد السلطة السياسية في البلاد. ومعنى ذلك احتكار الثروة واحتكار السلطة، وتلك نتيجة بالغة الخطورة على مصير المجتمعات الإنسانية المعاصرة. وقد شاء الدكتور «أحمد الجيوشى» في تعليقه -حين أراد المقارنة بين الرأسمالية والاشتراكية- أن يلجأ إلى تشبيهات أدبية أخاذة في الواقع، فقد قرر أن «الرأسمالية هى عقل بلا قلب وبالتالى هى بلا مشاعر»، في حين أن الاشتراكية هى قلب بلا عقل، وبالتالى هى بلا فرص حقيقية للاستمرار والنمو». ويخيل لى أن هذه الصيغة الاختزالية تظلم كلا من الرأسمالية والاشتراكية على السواء! وذلك لأنه في التطور الرأسمالى وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 نشأت دولة الرعاية الاجتماعية The Welfare State فى قلب النظم الرأسمالية، بما يعنى ضمان العمل والرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية للسكان الأكثر فقراً، مما يدل على احتفال الرأسمالية فى هذه المرحلة بالمشاعر الإنسانية. فى حين أن الاشتراكية لم تكن مجرد قلب بلا عقل، لأنها أثبتت أن إشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة أولوية من الأولويات القصوى لأى سياسة اقتصادية رشيدة، بغض النظر عن نجاح أو فشل الآليات الاقتصادية لتحقيق ذلك. أما القارئة الكريمة الأستاذة «سوسن مصطفى» فقد حددت روافد الاقتصاد المصرى وبعد ذلك اقترحت ايجاد أسواق موازية باعتبار ذلك هو الحل الوحيد لانضباط الأسعار. وأخيراً يمارس الأستاذ «هشام الخميسى» تحليلاً سوسيولوجيا مهما، لأنه أشار إلى خطورة انهيار الطبقة الوسطى المصرية التى حاولت من خلال الفساد- بعض شرائحها الحراك الاجتماعى لأعلى للالتحاق بالطبقات الميسورة، وأصبحوا بذلك من سكان «المنتجعات»، فى حين سقطت عن طريق الحراك الاجتماعى الهابط- شرائح متعددة منها لتلحق بالطبقات الفقيرة وتصبح من سكان «العشوائيات». لقد أدت ممارسات النظام السياسى السابق وخصوصاً فى مجال الزواج المحرم بين أهل السلطة وأهل الثروة إلى قيام ثورة 25 يناير طلباً للحرية والحياة الكريمة واحتراماً للكرامة الإنسانية. لمزيد من مقالات السيد يسين