الموظف هو حارس الدولة ورمزها، والسياسى يديرها. هذه هى معادلة العلاقة الشائكة بين الطرفين. دعك من التشوهات التى أضعفت صورة الموظف ومسحت بكرامته الأرض، فالموظف ليس فقط الباشكاتب المحنى الظهر، الراكض خلف الأوتوبيس حاملا جريدة وكيسا أصفر به برتقال. الموظف هو أيضا اللواء، ووكيل أول الوزارة، والسفير، ورئيس ديوان رئاسة الجمهورية، وأحيانا يصير وزيرا. ودعك من التشوهات التى قلصت عدد السياسيين وأبهتت صورتهم ومحت علاقتهم بالشعب. فالسياسى يمثل الشعب، حتى لو جاء بانقلاب أو وراثة. وهو يحكم ويصدر القرارات ويسود باسم الشعب، حقا أو زورا. دعك إذن من التشوهات التى تغلوش على معادلة العلاقة بين الجانبين لكنها لا تغيرها. ففى كل الأحوال لدينا سياسى يدير الدولة ممثلا لسلطة الشعب، سواء جاء بانتخاب أو بانقلاب، ولدينا موظف ينفذ السياسة سواء كان لقبه مديرا أو وزيرا. السياسى أمره مفهوم، فهو يأتى برؤية أو برنامج أو توجه أو حتى مزاج ما. إن كان منتخبا اعتبرنا أن هذه الرؤية تعكس إرادة أغلبية الشعب. وإن كان منقلبا أو وارثا قلنا هو النصيب، رحمة من الله أو كفارة عن ذنوبنا. أما الموظف فأمره غامض، ما دوره بالضبط؟ أين يقف؟ كيف يظل السفير سفيرا لبلاده حين يتغير النظام؟ كيف يظل قائد الشرطة والعسكر والمخابرات فى مكانه رغم تغير النظام؟ هل يتغير كل هؤلاء حين تضع الانتخابات المعارضة فى سدة الحكم؟ هل يعمل هؤلاء الموظفون فى خدمة الحاكم أم فى خدمة الدولة نفسها؟ وهل هناك فارق فعلا أم هى تبريرات يسوقها هؤلاء الموظفون للاحتفاظ بكراسيهم ومزاياهم وحياتهم المترفة على حساب الشعب الغلبان؟ لهذه الأسئلة إجابات مفهومة فى البلدان التى استقرت على الانتقال السلمى والدورى للسلطة، مثل الهند أو أمريكا. الموظفون، كبارا كانوا أم حفظة فى الأرشيف، يؤدون مهامهم وفقا لقواعد، ويفترض فيهم الحياد إزاء التيارات السياسية كلها. ومن ثم يظلون فى أماكنهم -أو يتحركون وفقا للقواعد المنظمة لعملهم- سواء شكل اليسار الحكومة أو اليمين. طبعا هناك تجاوزات، وعلاقات غير رسمية، ومناصب وظيفية عليا تتداخل مع السياسة وتتأثر بها، لكن القاعدة هى حماية الموظف وجهاز الدولة من التغيير السياسى، بل وقيام الموظف بحماية الدولة ومؤسساتها من السياسيين الذين يتولون قيادة وزارات لا يعرفون عنها شيئا ويحملون خططا وأحلاما لهذه الوزارات يتولى الموظفون مهمة تحطيمها وإحباطها وإبقاء كل شىء على ما هو عليه. ومن ثم تقوم السلطة الجديدة فى هذه البلاد بتغييرات محدودة فى الوظائف العليا للجهاز الإدارى والأمنى والعسكرى للدولة حين تتولى الحكم. لا تحتاج إلى «تطهير» لأن الموظفين لا يتبعون السلطة السياسية الخاسرة، بل يشكلون عصب جهاز الدولة نفسه. أما فى البلاد التى لا تشهد تغييرا فى سلطتها الحاكمة لفترات طويلة، مثل العزيزة مصر، فإن الحابل يختلط بالنابل. ونتيجة تراجع دور السياسيين -عدا السياسى الأكبر الذى يجلس على عرش النظام- فإن الناس تخلط بين كبار الموظفين والساسة، وأحيانا يقع الموظفون أنفسهم فى هذا الخلط. وحين يتكلس النظام، ويظل كل فى مكانه دون حراك لفترات طويلة، وتمتد خدمة الموظف بعد سن المعاش، ويصبح بقاؤه رهنا برضا السياسى، وكلاهما متشبث بكرسيه لا يغادره إلا موتا، تتداخل الأدوار وتميع الفواصل، ويسأل الناس أنفسهم إن كان كبار الموظفين يخدمون الدولة فعلا كما يفترض أم يخدمون النظام الذى يوزع عليهم العطايا. لكن طالما ظل النظام قائما فإن هذه الأسئلة تظل بلا أهمية، يسألها الناس وهم يتندرون على سوء الحال، دون أن يكون للإجابات أثر. ثم تقوم ثورة، وتريد الثورة إسقاط النظام، وفجأة تصبح الإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية: من هو النظام؟ أين يبدأ النظام وأين ينتهى؟ وهل كان كبار الموظفين هؤلاء جزءا من النظام أم قيدا عليه؟