أبنائى الصغار لم يكسروا الطوق بعد ، وعندما اندلعت ثورتنا المباركة شدتهم هتافات الشعب الثائر سواء التى تابعوها على شاشة التلفاز أو التى عاشوها مباشرة عندما نزلوا إلى الميادين العامة ولعل هتاف الشعب الرائع : " الشعب يريد إسقاط النظام " هو الذى بقى فى ذاكرتهم ووعيهم الطفولى فلا يزالون يرددونه بين الحين والآخر خاصة إذا تجددت لديهم الذكريات مع سماع ذات الهتاف ينطلق من حناجر الشعب اليمنى أو السورى ومن قبلهما الشعب الليبى . كنت أغبط أبنائى على هتافهم ، فنحن جيل تفتحت مداركه على هتاف واحد : " بالروح بالدم نفديك يا رئيس " ظللنا نحفظه فى طفولتنا مع كل زيارة للسيد الرئيس إلى مدينتنا ونردده ببلاهة منقطعة النظير فقد سلبت عقولنا مع حرارة الشمس أو برودة الطقس التى تعصف بأجسادنا الصغيرة ونحن نقف الساعات الطوال ننتظر مرور موكب السيد الرئيس وبين الحين والآخر نبدد صمت المكان ووحشته بالهتاف الزائف " بالروح بالدم نفديك يا رئيس " . ظل ذلك الهتاف يأخذ منا ومن كرامتنا دون أن ندرى فقد علمونا أن " الرئيس " هو الخالد أما الوطن فهو " الزائل " وأفهمونا أن بطولات الوطن وانتصاراته هى من صنع الرئيس ، أما انكساراته وهزائمه فهى مما كسبت أيدينا لأننا لم نراع الله فى السيد الرئيس !! ولكن أبنائى تتفتح مداركهم الآن فى ميادين الثورة وساحات التغيير ، ولذا فبوصلة الوعى لديهم بات مؤشرها مشدوداً ناحية : " الشعب يريد " فمن حسن حظهم أنهم لم يعرفوا لهم حتى الآن رئيساً ، لم يعرفوا سوى وطن اسمه " مصر " ذابوا عشقاً فى ترابه وتوحدوا حول " علمه " .. ولحسن حظهم أيضاً أنهم لم يعوا معاركنا الوهمية التى سحبنا إليها الوطن وهو لايزال فى أوج فرحته وبكورة ثورته فمعارك الدستور والانتخابات ، أو الانتخابات البرلمانية أولا أم الرئاسية لم تصل بعد إليهم لأنهم يحلمون بما هو أبعد من ذلك كله . إنهم يحلمون بوطن تستقر فيه معانى الديمقراطية وتتحقق فى أرجائه مقومات الدولة الحديثة من الحرية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون . وطن يعيش معانى التعددية الحقيقية التى تتسع لجميع الآراء والمواقف دون ادعاء بامتلاك الحقيقة من فصيل على حساب آخر ، فالتعددية هى القلب النابض للوطن الناهض وبدونها يتكلس ويفقد القدرة على تطوير منظومة الأداء فيه . يحلمون بوطن تتوزع خيراته على أبنائه بلا تفرقة ، فلا يستحوذ حفنة من الفاسدين على ثروته ويتلاعبون بأقوات الشعب ويحتكرون حاجاته الأساسية ، ويستأثرون بخدماته المميزة من صحة وتعليم وخلافه بما يملكون من أموال منهوبة من مال الشعب وخيراته ... أبنائى الذين ظلوا فى أيام الثورة يعيشون فى ميدان التحرير بوعيهم وخيالهم ينتظرون كل صباح ليسألوا ماذا فعل الثوار مع " مبارك " هل رحل أم لا ؟ يتمنون الآن أن يبقى " الميدان " قيمة تتجاوز الزمان والمكان.. لأنه فى أرجائه الفسيحة انصهر الوطن بتنويعاته الفكرية والدينية في مشهد رائع وبديع أعطى للجميع أملا ً في مصر جديدة تتجاوز الموروث الاحتقانى العنيف الذي ظل يتنامى فيها يوما ً بعد الآخر على مدار ثلاثين عاما ً .. حتى أحالها إلى كانتونات فكرية وطائفية متناحرة . أن يبقى " الميدان " أيقونة الاحتجاج الجمعي الذي يتجاوز كل عمل فردى منسوب إلى طائفة أو جماعة أو تنظيم .. بل يظل مشروعاً للاحتجاج الجماعي الذي يجمع الوطن بشتاته وتحزباته.. بآلامه ودموعه .. بضحكاته وقفشاته . لا أدرى هل كان أبنائى واقعيين فى أحلامهم أم تراهم تجاوزوا الحد ولم يفطنوا إلى طبيعتنا السياسية والفكرية التى يبدو أنها تأبى التوحد والتلاقى وتعشق الفرقة والبعاد ، تلك الطبيعة التى نغصت على الشعب المصرى فرحته ومسرته وأغرقته فى معارك هى انعكاس أصيل لتشرذم النخب والمثقفين . فهل ينعم أبنائى بأحلامهم ويكبرون ويكبر معهم هتافهم الأثير : " الشعب يريد " أم أن حالة الانقسام والاستقطاب التى يعانى منها المجتمع المصرى – والجميع شعر بفداحتها الآن - قد تؤدى بنا إلى طاغية جديد يغتال حلمهم ويقتل أملهم ويحولهم إلى دمى تردد بلا وعى ولا تفكير : " بالروح بالدم نفديك يا رئيس " . [email protected]