تحتل إسرائيل مستوى متقدما فى مجال العلوم الطبيعية، وكان لديها أكثر من جامعة فى قائمة أفضل 100 جامعة فى العالم فى أكثر من تصنيف من التصنيفات التى تحدد المكانة العلمية للجامعة أو المعهد الدراسى والبحثى، وأستميح القارئ أن أحكى هنا واقعة شخصية حدثت منذ ما يزيد على عشرة أعوام استدعتها الذاكرة، ودفعتنى إلى الكتابة اليوم فى هذا الموضوع عن معهد «التخنيون»، وقتها كنت عائدا بالقطار من الإسكندرية إلى عملى فى القاهرة، حيث كنت أرأس تحرير مجلة «النصر» للقوات المسلحة، وكنت محظوظا أن اللواء محمد العصار جاورنى فى المقعد الآخر، لما يتصف به من دماثة الخلق وبراعة فى مجال تخصصه. فى ذلك الوقت كانت الصين قد بدأت تكثف تعاونها مع إسرائيل فى بعض مجالات التكنولوجيا الدقيقة، ووقَّعت الولاياتالمتحدةالأمريكية عقوبات على تل أبيب، بسبب هذا التعاون الذى أتاح لبكين الحصول على جوانب علمية تحظر واشنطن وصولها إلى أى دولة، ولا ينطبق هذا بالطبع على حليفتها الأثيرة إسرائيل، وفى أثناء تبادل أطراف الحديث مع اللواء العصار علقت على زيارة الرئيس الصينى، التى كانت تجرى فى هذا التوقيت لإسرائيل، وقيامه بمجاملة مبالغ فيها لقادتها الذين كانوا يصطحبونه خلال جولة فى منطقة البحر الميت، حيث قام بخلع ملابسه ليغطس فى هذا البحر، وعندما أبديت تعجبى من أن يقوم بهذه المجاملة الزائدة على الحد رئيس دولة ذات مكانة عملاقة، جاءنى رد اللواء العصار مباغتا: ابحث عن التكنولوجيا لتعرف السبب، فالصين تريد أن تطور عن طريق التعاون العلمى مع إسرائيل قدراتها فى بعض مجالات التكنولوجيا الحساسة التى قطع الإسرائيليون فيها شوطا كبيرا، واستطرد الرجل يروى تجربته الشخصية مع «التخنيون» عندما صادفه هذا المعهد كثيرا فى قوائم الأبحاث المتعلقة بموضوع رسالة الدكتوراه التى كان يعدها، ما أثار فضوله لتقصى الحقيقة حول هذا «التخنيون». يومها وجه إلى العصار سؤالا، وعيناه تلمعان بذكاء صاحب المعرفة الذى يثق أن محدثه لن يصل إلى الإجابة الصحيحة، وكان السؤال هو متى أنشأت إسرائيل معهد «التخنيون»؟ كان ردى أنها فعلت هذا فى الغالب فى أواسط الستينيات، فبادرنى قائلا: لا، قبل هذا. وكانت إجابتى التالية، إذن فى أواسط الخمسينيات، فنظر إلى بضحكة تحد لطيفة، مرددا: قبل هذا، فقلت لم يبق للإجابة عن هذا السؤال إلا توقيت إعلان قيام الدولة، فأومأ برأسه أن لا، وعندها أسقط فى يدى، فقد أصبح الأمر فى منطقة الخيال، لأن «التخنيون» هكذا، أقيم فى دولة افتراضية، وحتى لا أطيل، فقد وفر الرجل علىَّ الحيرة فى هذا اللغز، منوها بأن هذا المعهد بدأ يعمل بنصاب علمى متكامل عام 1934، وإن كان الإعداد له والإنشاء قد بدأ قبل ذلك بكثير. يقع معهد «التخنيون» فى حيفا، وتولت جمع التبرعات له جماعة يهودية ألمانية فى مطلع القرن الماضى، وبُدئ البناء والتأسيس عام 1912، وكانت بدايته بكلية للهندسة عام 1926، حيث لم تكن مفاهيم التكنولوجيا قد تبلورت بعد، ومع كل تقدم علمى وتكنولوجى كان المعهد يتسع ويقتحم المجالات الجديدة، مع توفير كل الإمكانيات المادية والكوادر العلمية، وقد أصبح بمرور الوقت متفاعلا ومتداخلا فى المنظومة العلمية الدولية بقوة، حتى إن أحمد زويل أمضى به سنة، فى إطار تبادل الخبرات العلمية، وهو معهد تعليمى وبحثى، ويعد أكبر جامعة تكنولوجية فى إسرائيل، ويحرص المجتمع العلمى والسياسى هناك على تعاظم دور «التخنيون»، لدعم الاحتياجات المدنية والصناعية والعسكرية، ولم يغب عن سياسة المعهد الملاحقة المتجددة فى مجالات البيوتكنولوجى وعلوم الفضاء والطاقة والنانوتكنولوجيا والكمبيوتر، ومن ضمن نجاحات معهد «التخنيون» ذات الدلالة، حصول 3 علماء من العاملين فيه على جائزة نوبل فى مجالات علمية مختلفة. معنى هذا أن المشروع الصهيونى لتأسيس دولة لليهود كان مقترنا بأن تقوم هذه الدولة على أساس علمى يجعلها فى مصاف الدول المتقدمة، وما إن استقرت النية على اغتصاب فلسطين بدأت الإجراءات التنفيذية لتحقيق هذا التوجه الذى يراعى البعد العلمى على أرض الواقع، دون انتظار للوصول إلى مرحلة إعلان الدولة، نظرا لأن بناء قاعدة علمية لا يتم بين ليلة وضحاها، لما يتطلبه هذا العمل من ترتيبات فنية وإدارية وتراكم معرفى يحتاج إلى مدى زمنى طويل فى إطار مؤسسى منضبط ومتواصل، وهذا ما نفشل فيه فى مصر باستمرار فشلا ذريعا وفاضحا، وإذا كان كثير من العلماء المصريين الأفذاذ يظهرون من حين لآخر فى جميع بقاع الأرض، فللأسف إنهم نتاج مشروع فردى ناجح غير قائم على عمل مؤسسى على أرض الوطن، تتواصل فيه الجهود وتتابع الأجيال، ويتم العمل فيه بروح الفريق، مع الأخذ فى الاعتبار افتقاد معايير الجدارة والكفاءة عند الاختيار والترقى فى مصر. ومن المفارقات المؤلمة والحزينة أنه بعد مئة عام من بدء تأسيس معهد «التخنيون» ذائع الصيت والمكانة العلمية المشهودة فى العالم كانت تدور معركة مريرة وصاخبة فى القاهرة عام 2012 فى أروقة المحاكم بين جامعتى النيل وزويل فى نزاع عبثى كاشف لقصورنا الفكرى والأخلاقى والوطنى.