عندما صدرت وثيقة الميثاق الوطنى، تساءل كثيرون عن المواد الملغزة التى تضمنتها هذه الوثيقة المهمة فى تاريخ وثائق ثورة يوليو، وكانت تعبيرات مثل الاشتراكية العلمية، والقيادة الجماعية، والنقد الذاتى، وتذويب الفوارق بين الطبقات، وهكذا مما التبس على الناس والنخب الثقافية، ولذلك دشنت السلطة آنذاك كتابا ومفسرين من شتى مجالات التخصصات، فى الاقتصاد والسياسة والأدب والعلم، وراح الناس يقرؤون عناوين مثل: الفلسفة والميثاق والاقتصاد والميثاق وغيره من الفروع والمجالات، وكان ذلك مفيدا فى بعض نواحيه، ولكن هناك من بالغوا وتجاوزوا ما جاء بالميثاق نفسه، وتحميله ما لا يحتمل، وكان هذا من قبيل حرق البخور للسلطة، وتعويق أى تفسيرات أخرى من الممكن أن تكون صحيحة، لكنها تكون فاتكة بأحلام هذه الفئة التى تعيش على مثل هذه التوابل من الآراء، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخط الأسود، وهذه الفئات النفعية تعيش طوال الوقت فى أزقة السلطة وحواريها ومكاتبها وغرف نومها وتحت جلدها أحيانا، وبالطبع محاولات استبعاد كل من له رأى حكيم وواضح وشجاع، ففى الوقت الذى راح جامعو المدائح للسلطان يعملون بكل قدم وساق وقلم وحيلة، كان هناك أناس مخلصون قادرون على قراءة المشهد بشكل صريح ودقيق، ومن هؤلاء طبعا الكاتب أحمد بهاء الدين، الذى كتب مقالا مطولا عن الميثاق فى 26 مايو 1962، ونوّه فيه بأن مشروع الميثاق الذى قدمه جمال عبد الناصر إلى الشعب سوف يكون موضع مناقشات وشروح وتحليلات كثيرة، وأردف بأن هذه التفسيرات والتحليلات لن تكون حبيسة زمن صدور الميثاق، بل إنها ستتجاوز ذلك إلى أزمنة أخرى، وهذا ما حدث ويحدث بالفعل، فوثيقة الميثاق ما زالت تحمل المعانى الوطنية والمفاهيم الرشيدة التى يصلح بعضها للتعامل حتى الآن، وإذا كان أحمد بهاء الدين هو أحد الكتاب الذين وجدوا فى ثورة يوليو غاياتهم السياسية والفكرية، وكان يعتبر من أبنائها المخلصين، فلا نستطيع أن نقول هذا عن كاتب عملاق آخر وهو محمد التابعى، والذى تكونت ذائقته وأفكاره واتجاهاته فى زمن أزمنة أخرى تعود إلى العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، وكان التابعى قد أسس مع الفنانة العظيمة فاطمة اليوسف مجلة «روزاليوسف» فى عام 1925، وكانت المجلة فى بداياتها فنية، لأن التابعى نفسه كان ناقدا فنيا، وكان يكتب قبل ذلك باللغة الإنجليزية، وكانت أولى كتاباته نقدا عنيفا ليوسف وهبى، وعندما تأسست مجلة «روزاليوسف»، قررت فاطمة اليوسف مع التابعى أن تتحول المجلة إلى مجلة سياسية، وراحا يكتبان معا مقالات لا تعجب السلطة والسلطان، ما دفع بالسلطة آنذاك إلى أن تحبس التابعى، ويقضى عقوبته بالفعل وسط تعاطف زملائه والرأى العام، الذى كان ينتصر لكل الصحفيين الأحرار الذين كانوا يتعرضون كل يوم لمثل هذه العقوبات، لكن كان طموح التابعى تجاوز «روزاليوسف»، فراح يؤسس لمجلة جديدة، هى مجلة «آخر ساعة» عام 1934، وقد كانت المجلة مدرسة حقيقية فى الصحافة المصرية، ويعتبر التابعى هو أحد آباء الصحافة المصرية الكبار، وبعد ذلك اشترى الأخوان مصطفى وعلى أمين المجلة، لكنه ظل يعمل فى مؤسسة «أخبار اليوم» حتى رحيله فى مايو عام 1996. وبعد ثورة يوليو كان تعاطفه مع الثورة حقيقيا وكبيرا، هو الذى عاش فى العهد الملكى، وعمل فى صحافة ذلك العهد أكثر من ثلاثة عقود، ولكنه كذلك عاش ويلاته، وعانى من عقوبة الحبس فيه، وشهدت الصحافة فيه أياما سوداء فعلا، لذلك كان حماس التابعى للثورة ولجمال عبد الناصر حماسا حقيقيا وكبيرا، وكان التابعى قد بلغ من القيمة والقامة شأنا لا يجاوزه فيه أحد من رموز ذلك الزمان، وكان فى معظم ما كتبه منذ الثورة بمثابة الحوار العاقل لمسار هذه الثورة، هو الفنان والقاص والعاشق والمحب لكل أشكال الحياة، وعندما صدر الميثاق فى مايو 1962، كان أحد الكبار الذين دشنوا له بصدق، إذ كتب مقالا فى جريدة «أخبار اليوم» الصادرة فى 26 مايو 1962، عنوانه «التاريخ يسجل.. وهو يجرى ويلهث وراء جمال عبد الناصر»، وكتب فى مقاله هذا: «أمر طبيعى أن يقابل الميثاق بالفرحة والغبطة والحماسة من الجماهير هنا فى الجمهورية العربية المتحدة وحسب، بل من كل الجماهير فى جميع أقطار الأمة العربية.. رغم الحواجز والسدود فنحن نعيش فى عصر الراديو والتليفزيون والبرق، والكلمة تقال فى القاهرة، والحادث أو الحدث الذى يقع فى القاهرة يطير خبره فى دقائق عبر آلاف الأميال إلى كل أنحاء العالم، دنيا الحرية ودنيا الرجعية والإقطاع»، ولم يكتف المقال بوصف وشرح أشكال استقبال وثيقة الميثاق فى مصر والعالم أجمع، بل راح يعدد إنجازات جمال عبد الناصر وثورة يوليو، منذ أن وضعت الثورة قانون الإصلاح الزراعى فى بداياتها، وهنا نلاحظ أن التابعى يضع شهادة ميلاد جديدة لثورة يوليو، لكونها تفاعلت مع البند المعطل دوما وهو بند «العدالة الاجتماعية» والذى راحت العهود التى تلت العهد الناصرى تتجاهل هذا البند. ويؤكد التابعى أن أى ثورة تتجاوز هذا البند فهى خرجت عن كونها ثورة، لذلك فالثورات تستمد شرعيتها الحقيقية من تحقيقها هذا البند المعطل والمهجور والمستبعد من لوائح الثورات، وكان الميثاق قد وضع أساسا لهذه المفاهيم، ولكن الميثاق نفسه كان قد دخل ثلاجة التاريخ، ولم يخرج حتى الآن، ليتنا ننظر بعين الاعتبار إليه وإلى سواه من وثائق أخرى.