فى يوم الأحد، الموافق 20 مايو 1928، أزيح الستار عن تمثال نهضة مصر فى حفلة رسمية عظيمة -كما تقول صحيفة «البلاغ» الأسبوعية- وشرفها جلالة الملك بحضوره، وألقى صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا خطبة بليغة أمام الحشد الهائل الذى جاء ليشهد هذا الافتتاح العظيم، للفنان العظيم وابن مصر البار محمود مختار، وكانت فكرة التمثال ولدت بعد ثورة 1919 مباشرة، وكان مختار يريد أن يصنع لمصر أمجادها الفنية، مثلما صنع تماثيل لسعد زغلول، وتمثال الخماسين، وكان مختار قد وصل صيته إلى العالمية، فعرض فى باريس نموذج تمثال نهضة مصر الذى بهر النقاد الفرنسيين، وكل متذوقى ودارسى الفن، وشرعت الحكومة المصرية منذ ذلك الوقت نحو السعى قدما لتوفير التدبيرات المالية لإنشاء هذا التمثال، وبالفعل تبرعت الحكومة بقسط من المال، وأن يتم اكتتاب بعد ذلك لجمع بقية التكاليف، وظل مختار مثابرا ومجاهدا، وهو مفعم بعشق هذا البلد الذى أرسله ليتعلم الفن الحديث فى باريس، بمنحة من النبيل يوسف كمال، وبعد جهد عاشق، انتهى من التمثال، وتقرر إقامة حفل لإزاحة الستار فى 20 مايو كما أسلفنا، وتقول صحيفة «البلاغ» الوفدية: «وليس هذا التمثال دلالة على النهضة السياسية وحدها، لكن على نهضة شاملة بوجهاتها السياسية والاجتماعية والفكرية، فلا ريب أن الأمة حين نهضت فى سنة 1919 بزعامة -المغفور له- سعد باشا تطالب بحقوقها واستقلالها قد نفضت عنها الخمول كيف كان، وشرعت تطلب الرقى فى جميع نواحيه، ومثلها فى ذلك مثل الأمة الفرنسية حين قامت بثورتها العظيمة تريد الحرية السياسية، لكنها تأثرت من الثورة من جهات أخرى، فصارت تلك الثورة حدا فاصلا بين شطرين من تاريخ الفرنسيين وغيرهم»، ورغم أن التمثال وجد استقبالات حافلة من شعراء وزعماء ونقاد فن كثيرين فإنه وجد نقدا حادا من عباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى، وكل هذه الكتابات التى لاحقت التمثال، نشرها الدكتور بدر الدين أبو غازى فى مجلد ضخم، صدر فى الستينيات، وفى هذا المجلد يرصد أبو غازى مراحل تكوين وإنشاء التمثال بشكل مفصل، وكذلك ينشر مقالات العقاد والمازنى، والردّ عليهما، مع مجموعة من الأشعار والصور التى توضح المراحل الفنية والتاريخية التى صاحبت التمثال والمثّال فى رحلتهما إلى الخلود، لكننى مشغول هنا بيوم إزاحة الستار، والذى حضره الملك فؤاد، وكذلك الرئيس مصطفى النحاس باشا، وكان هذا تقديرا عاليا من قادة الأمة آنذاك، أتمنى أن يكون عبرة لمن يعتبر أو لا يعتبر، فتقدير واحترام وفهم الزعماء لقيمة الفن هى جزء من وطنيتهم التى تصبح رصيدا لهم فى وجدان الأمة، والمدهش أن الأمة المصرية وقادتها فى ذلك الوقت كانوا يدركون ما يحدث، ويفهمون ما حقيقة المستقبل الذى تسعى نحوه البلاد. ونهضة مصر -كما تعبر الصحيفة- لم تكن انقلابا مفاجئا، ولكن تطورا منظما وتقدما مقصودا، وقد بدا هذا فى تمثال النهضة الذى أتانا بالمرأة المصرية وهى توقظ أبا الهول من سباته أو تنبهه من تفكيره، وكذلك جاء التمثال ناطقا عن العلاقة الدائمة بين مصر الحديثة فى نهضتها ومصر القديمة قائدة العالم إلى الحضارة والعرفان. هكذا كان ينظر المصريون إلى أنفسهم فى ظل ثورة 1919 العظيمة، هذه الثورة التى تركت بصمتها فى كل المجالات، فكانت هدى شعراوى وسيزا نبراوى ونبوية موسى ومى زيادة (الفلسطينية الأصل)، ولبيبة هاشم (السورية الأصل)، وغيرهن فى مجال النهضة النسوية، وما أتت به هذه النهضة من مزيد لتحرر المرأة، وكان دستور 1923 الذى اغتيل مبكرا، ولم تستفد منه البلاد إلا قليلا، لكنه ظل شعارا مرفوعا طوال فترة حكم المستبدين والطغاة، حتى عاد بعد ثورة 1935 التى راح ضحيتها شهداء كثيرون، وسالت دماء مصرية غالية، وفى فترة العشرينيات من القرن الماضى تطورت الصحافة الحرة بشكل كبير، فكانت السياسة الأسبوعية التى كان تنطوى على أقلام بارزة فى ذلك الزمان مثل محمد حسين هيكل وأحمد لطفى السيد وعبد العزيز البشرى وغيرهم، وهكذا لم يكن تمثال مصر إلا نموذجا متناغما مع منظومة فكرية وسياسية وثقافية واجتماعية شبه متوازنة، وكل هذا هو عبقرية التفاعل بين الشعب والثورة، والقتال من أجل تفعيل هذه الثورة فى كل المناحى، خصوصا المجالات الفكرية، التى أنتجت لنا عقليات طه حسين وتجاوز أزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى» عام 1926، وكذلك الشيخ على عبد الرازق وأزمته مع كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، وفى هذا السياق يأتى مصطفى النحاس زعيم الأمة ليزيح الستار عن أهم إنجاز فنى لثورة 1919، بل ويتحدث بمعرفة عالية عن هذا التمثال الذى كان فى مواجهة محطة مصر بباب الحديد، ثم انتقل فى ما بعد ليكون مكانه الحالى أمام حديقة الحيوان، والجدير بالذكر أن تكونت لجنة منذ أن كان التمثال فكرة، وكان أعضاؤها هم الأستاذ ويصا واصف واصف غالى باشا، والفنان محمد محمود خليل بك، والدكتور حافظ عفيفى بك، والأستاذ أمين الرافعى بك، والدكتور فؤاد سلطان، وعبد القوى أحمد أفندى، وترأس هذه اللجنة حسين رشدى باشا، وعند إزاحة الستار كانت الكلمة المطولة للنحاس باشا درسا بليغا لأى زعيم مصرى يأتى بعده، ويقدّر قيمة الفن والثقافة فى تقدم الأمم.