هل تعيش المملكة أزمة بنيوية؟ أى دولة فى العالم يتم بناؤها على فكرة. فإذا انهارت الفكرة أو شاخت أو تقادمت أو انتهى مبرر وجودها، ولم تنجح فى التطور من داخلها، انهارت الدولة التى تركب عليها. قاعدة وجود المملكة، تقوم على أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب. تلك أفكار فى عمقها تقوم على مطاردة الشرك المتمثل فى عبادة القبور والأشجار والطواف حولها، وتقديم القرابين لها، والاستغاثة بها من دون الله. وعلى مطاردة كل فكرة مستحدثة ودخيلة على المنظومة الفكرية التى تركها المسلمون الأوائل. استفادت المملكة من تلك الأفكار، ونجحت فى تقديم نفسها إلى الولاياتالمتحدة، كوكيل محلى صاحب دور مهم، فى مطاردة الاتحاد السوفييتى. وفى هذا السياق، واصلت المملكة العمل على التبشير بتلك الأفكار والدعوة لها، خصوصا فى الأماكن التى تقع تحت نفوذ الاتحاد السوفييتى السابق. بحيث تحولت أفكار ابن عبد الوهاب إلى واحدة من أهم الأسلحة، التى حاصرت نفوذ موسكو حتى قضت عليه تماما. طاردته فى إفريقيا وفى آسيا، بل وداخل الاتحاد السوفييتى نفسه. اشتكى خروشوف إلى عبد الناصر، من كتيبات ترسلها الرياض إلى الجمهوريات الإسلامية التى كانت ضمن حدوده الجنوبية. لم يكن خروشوف قلقا من القرآن الكريم. هناك مسلمون ووجود القرآن عندهم فيه خدمة لوجدانهم. كان الرجل مستغربا من تعمد تهريب كتيبات دينية إلى داخل حدوده، يكتبها مشايخ باللغة العربية، لناس وإن كانوا مسلمين، إلا أنهم لا يتكلمون العربية ولا يفهمونها. لكن التصادم الأعظم بين أفكار ابن عبد الوهاب والاتحاد السوفييتى، جاء مع اجتياز القوات السوفييتية الحدود تجاه أفغانستان. على الفور أبرق زبيغينيو بريجينسكى، مستشار الأمن القومى الأمريكى حينها، للرئيس جيمى كارتر: لقد دخل الدب الروسى إلى فيتنامه. ثم ركب طائرته فى طريقه نحو ثلاث عواصم عربية: القاهرة، الرياض، إسلام أباد. وبعد أن نجح فى ضم العواصم الثلاث إلى حزام الحرب الدينية المقدسة ضد الإلحاد الشيوعى، أطلق إشارة بدء الجهاد فى أفغانستان. 40 مليار دولار تم ضخها فى دعم القتال ضد السوفييت. تكفلت المملكة السعودية بجزء من المبلغ. والباقى جاء من تجارة الأفيون. تكفل هذا العدد فائق الضخامة من المليارات كغطاء لحرب دينية ضد الشيوعية، بتوجيه هزيمة موجعة لموسكو، أجبرتها على مغادرة كابول. حيث انكفأت فى حدودها. مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتى فى ما بعد. ولم تتمكن روسيا من هزيمة أفكار ابن عبد الوهاب، إلا فى ما بعد حين طاردتها تلك الأفكار داخل حدودها فى الشيشان. يبدو أن أى فكرة تستمد من الجمل صفاته: إذا عجز الجمل عن المضى قدما، يبدأ فى أكل أصفاحه (أجنابه).. أيضا يبدو أن هذا بالضبط ما يحدث مع المملكة.. فالفكرة الوهابية بعد أن استهلكتها واشنطن فى مطاردتها للاتحاد السوفييتى السابق، بدأت تتلقى الهزائم فى الخارج: انهزمت فى الشيشان، وفى مالى، ولم تنجح فى الصومال، وتبدو على وشك الهزيمة فى اليمن وفى سوريا، ومن ثم فليس أمامها سوى أن تعود على قاعدة انطلاقها (المملكة) لتأكل فيها. المملكة الآن على الجسر: إن تمسكت بالفكرة دمرتها. وإن قضت عليها، فستتحول إلى خواء استراتيجى، يغرى أى فكرة مهما كانت هشاشتها بالانقضاض، لملء الفراغ الذى تركته الوهابية. تتلفت الولاياتالمتحدة فلا تجد أفكارا قابلة للحياة وقريبة من الواقع للشرق الأوسط، بعد انهيار الفكرة القومية، سوى أفكار حسن البنا. ويبدو أنها هى المرشحة (أمريكيا على الأقل) لملء هذا الفراغ. ربما يكون هذا ما أدركته قطر، ومن هنا ركبت على الفكرة الإخوانية، لتستخدمها بديلا فى امتداد (ودور) خليجى وشرق أوسطى ترى نفسها تستحقه. الأكيد أن قطر تلعب بمهارة، وأن المملكة محشورة فى ركن ضيق، دفعها إلى التحالف مع عدوها الأولانى، الذى قضى على دولتها الأولى، واستحل عاصمتها الدرعية، وأخذ أمراءها مقيدين بالسلاسل، ثم دفع بهم إلى العاصمة العثمانية، لتعلق رقابهم على المشانق.. لننتظر ونرى.