العلاقات المصرية الروسية تستعيد الكثير من وهج الماضي. ومن ذلك الماضى ما يستحق ان نتوقف عنده فى مثل هذه اللحظات الفارقة من تاريخنا. متى ولدت فكرة التعاون مع الاتحاد السوفييتى رغم كل التحذيرات المغرضة، والمخاوف غير المبررة، والضغوط من جانب قوى الداخل والخارج؟. ولماذا اعتبرت القيادة السوفيتية ثورة يوليو 1952 انقلابا دبره ضباط مغامرون؟ وكيف قبل خروشوف عبد الناصر زعيما يمكن التعامل معه، رغم كل محاولات الشيوعيين المصريين للوقيعة بينهما؟! الوثائق تقول إن المسيرة لم تكن كلها مفروشة بالورود .. كان التحول شرقا اقسى كثيرا على نفوس الكثيرين ممن يتصدرون المشهد السياسي، ومنهم من راهن يوما على النازية سبيلا لإنقاذ مصر من براثن الاحتلال البريطانى .. بل وبلغ شطط البعض حد إيفاد من عُرف بميوله القديمة إلى الأوساط الهتلرية سفيرا لمصر فى الاتحاد السوفييتي، وهو الفريق عزيز باشا المصرى فى توقيت كانت مصر فيه فى أشد الحاجة إلى قناة اتصال تلقى قبولا فى الأوساط الدبلوماسية السوفيتية. خطأ فادح ثمة من يقول فى موسكو انه يظل خارج دائرة التعليق، لا يخفف من وطأته ان مصر كانت لحقت بقطار "الشرق السريع فى عام 1943 اى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية حين اتخذت قرارها حول إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتى!!.
كان الاتحاد السوفيتى آنذاك ملء السمع والبصر، وهو الذى راح يفرض نفسه بكل القوة فى آخر سنوات الحرب العالمية الثانية "دولةً عظمى" يعمل لها الغرب ألف حساب!. صحيح انه اعتبر ثورة يوليو 1952 انقلابا عسكريا نتيجة تقديرات خاطئة من سفيرها فى القاهرة، وبإيعاز مباشر من الشيوعيين المصريين الذين قال عنهم يفجينى بريماكوف إنهم أوغروا صدور القيادة السوفيتية ضد ناصر، تصفية لحسابات شخصية. فى كتابه "الشرق الأوسط..على المسرح وفيما وراء الكواليس" (فى طبعتى 2006، و2012) قال بريماكوف:" كان موقف موسكو من الضباط الأحرار عندما وصلوا إلى السلطة فى مصر يتسم بالكثير من الريبة، فى وقت ظهر فيه من اعتبر المعيار الأساسى لتقييم القوى اليسارية فى تلك الفترة، هو مدى المسافة التى تبعد السلطة عن الشيوعيين وكانت فى مصر كبيرة جدا". إشارة صريحة إلى التوتر الذى شاب العلاقة بينهما. قال أيضا :" لم يكن جميع الشيوعيين المصريين يؤيدون ما بدأته الثورة من إصلاحات، فيما حال تطرف هذه القوى دون حسن تقدير الكثيرين منهم للخطوات الأولى للقيادة الجديدة". واستشهد بريماكوف بما كتبه الدكتور أنور عبد الملك الذى قال انه كان احد أعضاء "حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) ونقل عنه قوله إن الإصلاح الزراعى " لم يقض على ملكية الإقطاعيين للأرض، بل اكتفى بمجرد تحديدها، وهو ما لقى ارتياح السفير الامريكي".ومضى بريماكوف ليكشف عن "ان سفارة الاتحاد السوفيتى فى القاهرة كانت تبلغ القيادة السوفيتية فى موسكو بمثل هذه التقديرات السلبية غير المرتبطة بالواقع المصرى والتى كان الكثير منها مبالغا فيه وهو ما كان متطابقا مع تقديرات الشيوعيين السوريين والعراقيين واللبنانيين أيضا. ولأسباب إيديولوجية خاطئة نشأ موقف سلبى من النظام المصرى الجديد". وجاءت وفاة ستالين فى مارس 1953 وما أعقبها من انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى أعلن فيه الزعيم السوفييتى الأسبق نيكيتا خروشوف عن قراره التاريخى تجاه سياسات الزعيم ستالين حول "إدانة عبادة الفرد"، لتعيد موسكو النظر فى الكثير من توجهاتها، وهو ما كان استوجب استباقه بإجراء العديد من التغييرات التى طالت عددا من القيادات المحورية بما فى ذلك فى وزارة الخارجية السوفيتية. وكان المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفييتى عهد بقيادة هذه الوزارة إلى احد ابرز نجوم الساحة السياسية وهو فياتشيسلاف مولوتوف اليهودى الأصل الذى سبق ووقف وراء الكثير من إجراءات الدعم والتأييد لتنفيذ مخطط إقامة دولة إسرائيل فى فلسطين، والتى كان الاتحاد السوفييتى اول من اعترف بها فى العالم. ومن ذات المنظور وفى إطار تغيير كوادر عدد من السفارات فى بعض العواصم المهمة ومنها القاهرة، وصل الى القاهرة فى فبراير 1954 السفير دانييل سولود الذى فاجأ الجميع بانه لا يبتعد كثيرا عن تقديرات سلفه بشان قيادات ثورة يوليو. لم تكن موسكو آنذاك أفاقت بعد من وقع "المفاجأة" التى كان سفير مصر فى موسكو عزيز باشا المصرى باغت بها سفيرها فى القاهرة دانييل سولود. وكان سولود ابلغ موسكو بان نظيره المصرى فى العاصمة السوفيتية فاتحه وباسم "البكباشى جمال عبد الناصر" برغبة مصر فى شراء أسلحة سوفيتية. كان ذلك فى أول فبراير 1954 فى توقيت مواكب لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفييتى وإسرائيل بعد فترة انقطاع لم تدم طويلا بسبب اعتداء عناصر صهيونية على مقر السفارة السوفيتية فى تل أبيب. وفى كتابه الصادر فى موسكو تحت عنوان "ملفات سرية" فى عام 2005 كتب ليونيد مليتشين يقول "إن السفير السوفييتيى "المحنك" سولود ودون استشارة موسكو نجح فى التخلص من مثل هذا الطلب بالغ الحساسية"، على حد تعبيره. واستشهد مليتشين بمقال نشرته مجلة "قضايا التاريخ" فى عددها السابع عام 1954:"حول النشاط التخريبى لألمانيا الهتلرية فى بلدان الشرق"، والذى أشارت فيه إلى أن قائمة عملائها الدائمين كانت تتضمن اسم رئيس الأركان المصرى الفريق عزيز باشا المصري". وأضاف قوله:" ان القادة السوفييت لم يعترضوا على وصول عميل للنازيين فى وظيفة سفير إلى موسكو" . قال :"ان مثل هذا الموضوع لم يكن ليطفو على سطح العلاقات، خشية ان يسفر طلب أبعاده عن موسكو غضب المصريين"( ملفات سرية – ص 310). ومن الطريف فى هذا الشأن أن مليتشين أشار فى الكتاب نفسه إلى أن طلب عبد الناصر إمداده بأسلحة سوفيتية جاء مواكبا لما ابلغ به معروف الدواليبى وزير الدفاع السورى فى 31 مارس 1954 السفير السوفييتى فى دمشق سيرجى ميتشين حول الرغبة فى إمداد سوريا بأسلحة سوفيتية وهو ما رفضه السفير السوفييتى فى حينه، على نحو غير مباشر. ومن اللافت أن عبد الناصر الذى حاول سبر أغوار القيادة السوفيتية تجاه احتمالات إمداده بالأسلحة كان يعى جيدا ما سبق وقامت به هذه القيادة من خطوات على طريق "صناعة إسرائيل" بداية بإمدادها بغنائمها من العتاد العسكرى الألمانى فى أعقاب نصرها المدوى فى الحرب ضد الفاشية الهتلرية، إضافة إلى ما سبق وأوفدته الى فلسطين من الكوادر الشيوعية السوفييتية، ونهاية بالاعتراف بدولة إسرائيل فور الإعلان عن قيام الدولة فى 15 مايو 1948. كان عبد الناصر يعى أيضا أبعاد ما احتدم من خلافات لاحقة بين موسكو وتل أبيب، ما كان فى مقدمة أسباب رفض القيادة السوفيتية طلب القيادة الإسرائيلية حول إمداد إسرائيل بالمزيد من الأسلحة وهى الخلافات التى أعقبها قرار موسكو حول قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل فى مطلع الخمسينيات، وما أراد عبد الناصر من الاستفادة منها فى حال باءت محاولات بعثته برئاسة على صبرى التى أوفدها إلى واشنطن لبحث احتمالات إمدادها لمصر بما تحتاجه من أسلحة وعتاد عسكري. ونذكر أيضا بهذا الصدد ما كتبه خروشوف فى مذكراته حول هذه المسالة:" لم نكن نستطيع تحديد ماهية اتجاهات السياستين الداخلية والخارجية لحكومة عبد الناصر خلال الأيام الأولى لتوليها السلطة فى مصر، وكنا نميل اقرب إلى اعتبارها وعلى ما يبدو نتاج واحد من الانقلابات العسكرية المشهورة التى طالما عرفناها وتعودنا عليها. ولذا فلم نكن ننتظر منها شيئا يذكر. وعموما فلم يكن أمامنا إلا أن ننتظر لنرى ما يمكن أن تتخذه القيادة المصرية الجديدة من قرارات". لكن ذلك لم يمنع موسكو من أن تكون ايجابية فى توجهاتها نحو القاهرة. ففى 29 مارس 1954 استخدم المندوب السوفييتى فى مجلس الامن "حق الفيتو" لعرقلة مشروع قرار يدعو مصر إلى تنفيذ القرار الصادر فى أول سبتمبر 1951 حول حرية الملاحة فى قناة السويس، وهو ما أثلج صدور المصريين ولا سيما إن موسكو كانت فى السابق أيدت طلب إسرائيل حول المرور فى قناة السويس. ونذكر أن محمود فوزى وزير الخارجية المصرية استدعى السفير السوفييتى فى القاهرة دانييل سولود ليبلغه بان مصر لن تسمح بمرور إسرائيل فى قناة السويس لأنها تظل معها فى "حالة حرب". وكانت موسكو قامت بعد ذلك التاريخ برفع مستوى التمثيل الدبلوماسى مع مصر وهو نفس ما فعلته مع إسرائيل. ولم يمض من الزمن الكثير حتى فاتح عبد الناصر بنفسه فى 15 يونيو 1954 السفير السوفييتى سولود برغبة مصر فى شراء أسلحة سوفيتية، مشيرا إلى "ان ذلك سيكون مقدمة لطلبات مماثلة من جانب دول عربية وإسلامية تظل مصر بالنسبة لها القدوة والنموذج". وردا على تساؤل السفير السوفييتى حول مدى اعتبار ذلك طلبا رسميا قال عبد الناصر "ان ذلك هو فعلا ما يقصده". وفى الثامن من يوليو ابلغ السفير السوفييتى عبد الناصر بان طلبه قيد دراسة الحكومة السوفيتية وأنها تنتظر قوائم تفصيلية محددة من الحكومة المصرية حول هذا الشأن . وحين تساءل عبد الناصر عن المكان الذى يمكن أن تختاره موسكو لإجراء المباحثات حول هذه القضية .. فى موسكو أو فى القاهرة؟ ، قال السفير بان ذلك أمر متروك لتقدير القاهرة. على أن الحديث حول شراء الأسلحة السوفيتية ظل معلقا لفترة طويلة، ثمة من قال أنها تعود إلى أن القيادة المصرية لم تكن فقدت الأمل بعد فى احتمالات تلبية الولاياتالمتحدة للكثير من آمالها فى الحصول على الأسلحة والمعدات العسكرية الحديثة، فى الوقت الذى ظلت فيه الشكوك والريبة تكتنف الكثير من جوانب العلاقات بين الاتحاد السوفييتى ومصر، نتيجة "اعتبار القيادة السوفيتية لما حدث فى مصر فى 23 يوليو 1952 انقلابا عسكريا قامت به مجموعة من الضباط المغامرين" حسب تقديرات الشيوعيين المصريين!!.