الدرس الأعظم الذى تعلَّمه شعب مصر منذ بدأ محاولاته لبناء دولته الحديثة، هو أنه لا يمكن الفصل مطلقًا بين الحق فى رغيف الخبز وبين بناء نظام ديمقراطى حقيقى. التضحية برغيف الخبز من أجل الديمقراطية أو العكس كانت لها نتائج وخيمة فى كل العصور، وأى رهان على العودة إلى هذا الطريق هو رهان خائب. وعندما هتفت جماهير الثورة «ارفع راسك فوق.. إنت مصرى»، كانت تربط ذلك بشعار الثورة الجامع المانع الذى ربطت فيه الجماهير بكل عفوية بين العيش والحرية والكرامة الإنسانية. فى الحملة الحالية للمرشحَين الرئاسيَّين «المشير السيسى وحمدين صباحى» ينبغى أن يكون الأمر واضحا، وأن لا تُترك أى مساحة للغموض فى هذا الشأن.. تركيز حمدين على البعد الاجتماعى فى حملته لا ينبغى أن يكون على حساب الحريات. والرغبة الحميمة فى الإنجاز عند المشير السيسى لا تعنى مطلقا الفهم الخاطئ لدى البعض بأن الانضباط عدو للحرية، أو أن الديمقراطية هى فقط الحق فى الصياح. وكما أن انحيازنا إلى العدل الاجتماعى ينبغى أن يكون بلا حدود، فإن انحيازنا للديمقراطية هو بنفس المقدار.. ولا ينبغى هنا الاحتجاج بالعوائق التى تعترضنا من فقر أو أمية.. ففى ظل هذه الأوضاع كان انحياز الشعب دائما إلى الموقف الوطنى الصحيح.. هكذا كان الأمر قبل ثورة يوليو حين كان الوفد هو ممثل التطلعات الوطنية، وهكذا كان الأمر بعد يوليو حين كان عبد الناصر هو رمز الثورة وقائدها، وهكذا كان الأمر مع الملايين التى خرجت فى 25 يناير حين أسقطت الثورة النظام، وفى 30 يونيو حين استردّ الشعب ثورته وأسقط فاشية الإخوان التى أرادت أن تتاجر بالدين وأن تختبئ وراء صندوق الانتخابات لمرة واحدة.. وأخيرة! أيضا لا ينبغى الخلط بين الديمقراطية الحقيقية كما يريدها الشعب، وبين الفوضى التى يريد البعض اتخاذها وسيلة لضرب الثورة وهدم الدولة.. كما لا ينبغى الخلط بين جوهر الديمقراطية كثقافة مجتمع، ووسيلة حياة، وبين ما يريده البعض من أن يقتصر دور المواطن على صندوق انتخابات كل عدة سنوات! لا تشغلنى انتخابات الرئاسة بقدر ما يشغلنى باقى العمليات الانتخابية، بدءًا من الانتخابات البرلمانية، إلى المحليات، إلى نقابات العمال والمهنيين، إلى اتحادات الطلبة.. وكم أتمنى أن ننشغل من الآن بإصلاح العيوب التى ظهرت فى القانون الخاص بانتخابات الرئاسة، وأولها قضية التمويل وكيف نضبطه ونرفع العقوبة على مخالفته.. والتى لا تتجاوز الآن الغرامة المالية. إن أسوأ ما نواجهه فى الانتخابات هو المال الانتخابى، خصوصا فى ظل أحوال اقتصادية متدهورة، وفى ظل وجود تمويل هائل سواء من الداخل أو الخارج، يمكن أن يؤثر كثيرا فى انتخابات البرلمان أكثر مما يؤثر فى انتخابات الرئاسة، التى تنحصر فيها المنافسة بين أجنحة الثورة نفسها، بعكس انتخابات البرلمان القادم، التى سنجد فيها أعداء الثورة، وفلول الأنظمة السابقة، يستخدمون كل سلاح، بما فى ذلك المال الانتخابى، وأيضا الخلط بين الدين والسياسة، وهو الخطر الثانى الكبير. ويزيد من خطورة الأمر الحالة البائسة لأحزابنا السياسية، التى ستزداد بؤسًا فى ظل التوجه إلى الانتخابات بالنظام الفردى، وأيضا مع تشرذُم الحركات الشبابية التى كنا نعوّل عليها كثيرا قبل أن يصيبها المرض المعتاد فى حياتنا الحزبية، وهو الانقسام.. وصراع الجنرالات الذين هم بلا جنود! وتزداد الخطورة حين نرى ضعف تأثير الأحزاب فى معركة الرئاسة، وحين نرى -على الجانب الآخر- أن المشير السيسى يعلن أنه لن يكون له حزب سياسى «وهو أمر قد تفرضه مهام المنصب وأحكام الدستور بعد انتخابه، ولكن ماذا عن الآن؟».. بينما حمدين لم يستطع -من جانبه- أن يحول الحركة التى التفّت حوله فى انتخابات 2012 إلى حزب سياسى قوى يخوض به الانتخابات الحالية!! المشكلة أن البعض من الحواريين أو المنافقين أو المتسلقين يعتقد أن القضاء على الأحزاب سيفيد فى تهدئة الأوضاع والتركيز على العمل الجاد فى المرحلة المقبلة.. بينما الصحيح هو أن إحدى أهم معاركنا القادمة أن نقيم حياة سياسية تستوعب حركة الجماهير من خلال أحزاب قوية قادرة على إدارة التنافس الديمقراطى على أفضل وجه.. مع فائق الاعتذار إلى فرقة حسب الله الجديدة، التى تهلل نفاقًا لكل كلمة تقول إن مصر ما زالت «صغيرة على الديمقراطية»!