حتى لحظة كتابة هذا المقال تشير النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية إلى أن محمد مرسى حصل على نحو خمسة ملايين صوت، يليه شفيق، والثالث هو حمدين صباحى الذى حصل على أربعة ملايين صوت. وهناك إحصائيات تشير إلى أن حمدين يصعد إلى المركز الثانى بالتدريج وهكذا فإننا - حتى هذه اللحظة - إزاء افتراضين: أن يدخل حمدين إلى انتخابات الإعادة، أو أن يخرج من السباق وفى الحالتين يصبح السؤال: كيف نحول الفوز - أو الهزيمة - إلى انتصار يتجاوز حدود المعركة الانتخابية إلى استمرار الثورة؟
لقد حصل حمدين صباحى حتى الآن على أكثر من أربعة ملايين صوت وهذه هى الحقيقة التى ينبغى أن نؤسس عليها أى شىء. أربعة ملايين صوت انتزعها فى ظل بقاء السلطة بأيدى النظام القديم وفى ظل التجهيل والفاقة والخداع والتضليل وشراء الأصوات بعلب الزيت والوعود الإلهية. ويمكن لحمدين صباحى أن يحسب من الآن - سواء دخل الإعادة أم لا - أن لديه توكيلا للاستمرار بالثورة من هذه الملايين المجتمعة يشبه التوكيلات التى كانت تكتب لوفد ثورة 19 وأن يخطط لحركته السياسية بناء على ذلك. الآن - سواء فاز حمدين أم لا - يمكن للثورة أن تخطو للأمام أوسع وأكبر خطوة ممكنة، وأن تستخلص من الانتخابات الرئاسية درسا واحدا: وزن وحجم الجماهير التى أعطت صوتها وأحلامها وأمانيها للاتجاه الآخر، وليس لممثلى نظام مبارك ولا لممثلى التيار الرجعى المتكسب بالطابع الدينى. لم يكن حمدين صباحى مطالبا بالكثير قبل أن تعطيه الملايين صوتها، لكنه الآن مطالب بل وملزم بالكثير. كان حمدين صباحى قبل ملايين الأصوات منشدا حرا، لكن الملايين التى منحته أصواتها حددت له نغمات النشيد: الاستمرار بالثورة، وتخليص الثورة من الأوهام ودفعها إلى خوض المعارك الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والوطنية. الآن، نوقن أننا قوة، الآن نحصى أعداد صفوفنا، الآن نبدأ.
وأقول سواء فاز حمدين صباحى أم لا، فإن عليه أن يضع خطة أكبر من حزبه «الكرامة»، لأن المانحين أصواتهم له أكبر من طبيعة ذلك الحزب نحن فى أمس الحاجة - بموجب ملايين التوكيلات الشعبية - إلى خطة للثورة، تقوم أولا على إنشاء جبهة واسعة، أو تحالف، يكون فى صلب برنامجه، وبالتفصيل، وبخطط يضعها أساتذة إخصائيون: خطة لاستنهاض الصناعة الوطنية ووقف الخصخصة، وخطة لاستنهاض الزراعة ومنح الفلاحين حقوقهم، وخطة لاستنهاض التعليم ليكون مرتكزا لكل ثقافة وطنية حقا، خطة لفك التبعية الاقتصادية والسياسية لأمريكا وإسرائيل، وخطة لتوزيع عادل للدخل القومى الآن - بعد الفوز على الأقل بأربعة ملايين صوت - نريد تخليص الثورة من أوهام عميقة سابقة فقد وضعت الثورة فى مقدمة أهدافها الإصلاح السياسى وحده بعزل الرئيس وصياغة جديدة للدستور وانتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة ومع أن الثورة كانت تزوق مطلب الإصلاح السياسى بعبارات عن الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية، فإن تلك العبارات لم تشتبك بالمطالب الجماهيرية العميقة، وظلت مجرد عبارات تفتقر لبرامج محددة، وآلية لتنفيذها ولقد أخلص الكثيرون طويلا لوهم الإصلاح السياسى المعزول عن إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأخلصوا لوهم أن إعادة صياغة الإطار التشريعى والدستورى والنظام السياسى ستصنع بحد ذاتها حياة جديدة، لكن التاريخ والدول، والأنظمة، لم تعرف أبدا تلك الديمقراطية الخالصة التى تقف على قدم المساواة من الفقراء والمطحونين، والأغنياء والملاك. وبينما تشير جميع الدساتير فى العالم إلى مساواة المواطنين جميعاً أمام القانون، فإن الواقع الفعلى ينفى تلك المساواة فى التطبيق العملى، فالديمقراطية التى تمنح الجميع حق الترشح للرئاسة فى أعظم البلدان الأوروبية، لا تعطى الجميع المال الكافى لخوض تلك الانتخابات، ومن ثم يخوضها الأثرياء فقط والمدعومون من الطبقات والمؤسسات الحاكمة. هناك مثال آخر لوضع الدستور الحقيقى فى ظل الفوارق الاجتماعية، ففى روسيا لا يسمح الدستور للرئيس بأكثر من فترتين، ولكن الرئيس بوتين تحايل على الدستور حين اختار رئيسا خاضعا له شخصيا لفترة فاصلة ثم عاد إلى الحكم. دستوريا كان سلوك بوتين سليما وقانونيا مائة بالمائة، فعليا كان تحايلا على إرادة الناخبين لأن السلطة بيد الأقلية التى تريد فلاديمير بوتين. ومن الوهم أن نظن أن هناك دستورا محايدا ونظاما قانونيا يقف على مسافة واحدة من كل القوى الاجتماعية، من الوهم أن نظن أن الثورة هى الإصلاح السياسى الدستورى والإطاحة برأس نظام مع بقاء النظام ذاته بكامل عافيته وصحته.
والديمقراطية - بعيدا عن الإصلاح الاقتصادى - تظل مساواة لفظية واسمية لا أكثر. وقديما قال جمال عبدالناصر إن المواطن الذى لا يملك قوت يومه ليس حرا، لأنه مرغم على بيع صوته فى الانتخابات. بهذا الصدد أتوقف باهتمام عند قريتين فى أسيوط قاطعتا الانتخابات الرئاسية لأن أبناءهما لا يجدون الخبز فى القريتين. فى هذه الحادثة تحديدا يتضح الفارق الضخم بين دعاة الإصلاح السياسى المعزول عن أى محتوى اجتماعى، وبين دعاة الإصلاح السياسى كخطوة لتغيير الواقع الاقتصادى، لأن الجماهير لا تجد أى معنى لانتخابات نزيهة، أو دستور، بعيدا عن قضية الخبز والتعليم والعلاج والسكن. على حمدين صباحى الآن أن يثق فى الملايين، وأن يردد لحنها، وأن يقدر أن الأصوات التى كسبها هى تفويض باستمرار الثورة، تفويض بتعميق مطالبها، تفويض بصياغة برنامج لفقراء الفلاحين والعمال، تفويض بربط الإصلاح السياسى بالإصلاح الاجتماعى، تفويض للقيام بتوحيد كل القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية والعلمانية فى جبهة واحدة والتحرك بها إلى الأمام. وهى مهمة صعبة وثقيلة. قبل فوزه بملايين الأصوات كان حمدين صباحى منشدا حرا، الآن تلزمه ملايين الأصوات بالنغمة التى تريد لها أن تصدح فى أجوائنا. الآن على الحنجرة أن تتسع لملايين الأصوات وأن تتحمل عبء النشيد الكبير. هذا هو انتصارنا.