تربى المصريون على أن صيانة المرأة من أبجديات الشهامة والمروءة والرجولة، وهو واجب يقوم به حتى من تخلوا عن مساحات كبيرة فى أخلاقياتهم، فتجد البلطجى أو اللص أو قاطع الطريق يأتى عند هذا الخط ويتوقف، ليس فقط حفاظا على كرامة المرأة وحرمتها، ولكن حفاظا على كرامته هو وصورته عن نفسه وصورته عند أهله وناسه، إذ توافق الناس على مر العصور على أن الرجولة تنتفى عمن ينتهك حرمة امرأة أو يستقوى عليها أو يهينها مهما كانت الأسباب. أسترجع هذه الأبجديات، وأتذكر الخليفة المعتصم الذى جهز جيشا وغزا به الروم استجابة لاستغاثة امرأة كشف رجل رومى جزءا من ثوبها فاستغاثت: «وا معتصماه»، وأتذكر ما يسمى لدى العرب فى البادية ب«صيحة الضحى»، وهى تعنى أن المرأة لو صرخت فى الصحراء بينما هى ترعى الغنم يهب إليها أقرب رجل فينقذها مما هى فيه ويدفع عنها الأذى دون أن يسأل من هى وإلى أى قبيلة تنتمى؟ هكذا تربينا وهكذا قرأنا التاريخ، ولذلك أجد صعوبة شديدة فى فهم واستيعاب ما رأيناه من سلوك جنود وضباط الشرطة العسكرية وهم يسحلون فتاة مصرية أمام مجلس الوزراء، فيتعرى جسدها ويظهر صدرها بينما يمارس باقى الجنود ضربها بالهراوات بقسوة شديدة، ثم يأتى جندى مصرى مغوار من الأمام ليسدد فى صدرها العارى ركلة شديدة وهى تصرخ بين أيدى المغاوير من الألم، وهم لا يرحمون صرخاتها، بل يواصلون سحلها وضربها حتى حين انقطعت أنفاسها فهم يخشون أن تستيقظ من غيبوبتها أو من موتها فتهدد الأمن القومى الذى تربوا على حمايته. وينتهى (أو لا ينتهى ولن ينتهى) هذا المشهد ليبدأ مشهد آخر لسيدة فى منتصف العمر تلبس بالطو أحمر وتمشى فى حالها، فيهاجمها جنودنا البواسل وينتصرون عليها بالعصى والأقدام فتسقط صريعة فاقدة للوعى (وربما للحياة)، ويواصل المغاوير ركلها فى كل مكان فى جسدها وضربها على رأسها بالعصى الغليظة. ومشهد ثالث لم أستطع النوم بعد مشاهدته، حيث تكوم جسد بشرى على الأرض، والجنود المصريون البواسل يضربونه بينما هو (أو هى لست أدرى) يرتعش وينتفض، فلا تشفع له ارتعاشاته وانتفاضاته ويستمر الضرب حتى تسكن حركاته (أو حركاتها) إلى الأبد. وأتخيل طفلا بجانبى يسألنى: هل انتصر جنودنا على الإسرائيليين يا أبى؟ إنهم ليسوا إسرائيليين يا بنى بل مصريات ومصريون. وهل يضرب جنودنا المصريات والمصريين؟ ألم تقل لنا إنهم يدافعون عنا ويمنعون اليهود من الدخول علينا حتى لا يخطفوا النساء ويعذبوهن؟ .............. لماذا سكت يا أبى؟ .............. إنها محنة حقيقية وعار سوف يلاحقنا سنوات طويلة، بل ربما لا ينمحى، ونعلم جميعا أن غالبية الجيش لا تقبل ما حدث ولكنه للأسف قد حدث، ولكن يبقى السؤال: ما التركيبة النفسية لهذا الضابط وهذا الجندى التى سمحت بهذا الفعل المشين؟ وكيف تشوهت عقيدته العسكرية فانقلبت من حماية الوطن والشعب إلى إهانة الوطن والشعب؟. وكيف تخلى عن حماية العرض وراح ينتهك عرض الفتيات والنساء فى المعتقلات وفى الشارع وفى حديقة مجلس الشعب؟ كيف غابت عنه صورة أمه أو أخته أو قريبته وهو يمارس هذا الفعل الفاضح فى الطريق العام مع امرأة خرجت تطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية، وهى أشياء حرم هو منها ولم يخرج للدفاع عنها فخرجت هى بالنيابة عنه. للأسف لقد أقنعوه أن المتظاهرين والمتظاهرات خونة وأعداء للوطن وأنهم يتلقون دعما خارجيا لتخريب الوطن. كيف ينظر هذا الضابط وهذا الجندى إلى أمه وأخته وزوجته بعد ذلك؟ وهل سيستطيع التباهى بالنجوم العسكرية على كتفيه بعد ذلك؟ وهل يستطيع الحديث عن الشرف العسكرى وعن العقيدة العسكرية وعن الكرامة الوطنية؟ وكيف تسوغ له نفسه حماية المبانى والمنشآت، بينما ينتهك كرامة وأعراض النساء؟ وكيف أصدر الضابط الكبير أوامر بكشف عذرية الفتيات المصريات وهن رهن الاعتقال لديه لا لجريمة ارتكبنها، ولكن لأنهن خرجن من بيوتهن يدافعن عن شرف وكرامة وحرية الوطن برجاله ونسائه؟ كيف يهنأ فى عيشه وكيف يحترم آدميته، بينما هو يجلس ليتفرج على ضباطه وجنوده وهم يعبثون بفروج الفتيات والنساء ليروا إن كن عذارى أم لا؟ ونعود مرة أخرى إلى قادته الذين شوهوا إدراكه وشوهوا فطرته وشوهوا عقيدته وجعلوه يضرب أبناء وبنات وطنه بهذه القسوة والوحشية التى لا يتخيل أحد أنه يفعلها مع جنود العدو. لقد ربوه فى معسكراتهم على احتقار هذا الشعب والتعالى عليه... أليس هو الباشا وهم العبيد؟ والعبيد ليست لهم حرمة أو كرامة عند الباشا. لقد تربى على حماية كرسى أسياده حتى لو استلزم الأمر سحق رؤوس الشعب الذى يدفع له ولسيده مرتباتهم. مرة أخرى نعود بعد الثورة إلى علاقة السيد والعبد، تلك العلاقة المهينة التى مات الشهداء فى ميادين وشوارع مصر لكى يقضوا عليها فإذا بها تعود من جديد وتخرج لسانها للشهداء قائلة فى شماتة: ها قد عدنا!!! هل نستطيع بعد ذلك أن نشهد عرضا عسكريا ونشعر بالفخار الوطنى؟ هل سنستمر فى الاقتطاع من قوتنا لننفق ببذخ ومن دون حساب على جيشنا الباسل؟ هل سنعطى الجيش أولوية فى الميزانية العامة فنتركه يأخذ ما يشاء ونعيش نحن على القليل الذى تبقى منه ونحن راضون؟ هل سنشترى له البيادة التى يدوس بها فى صدر فتياتنا وعلى رأس إخوتنا وأمهاتنا؟ هل سنستورد له العصا الكهربية التى يلهب بها أجسادنا؟ هل كان الجندى ينفذ أوامر قادته؟ وهل طلبوا منه ممارسة هذه الوحشية... أم أنه يخرج قهر السنين الذى تعرض له فى الضحية التى ساقها القدر فى طريقه؟ إنه يضرب الفتاة والمرأة بغل ويتفنن فى سحق كرامتها وإنسانيتها بل وسحق حياتها. هل هو جانٍ ومجنى عليه فى ذات الوقت؟ أم أنه تحين الفرصة ليخرج مخزون غضبه وحقده على المجتمع؟ لقد عاش الجيش المصرى وتربى على عقيدة الشرف العسكرى، والتى تمنعه من توجيه سلاحه إلى صدور شعبه، فمن الذى جنى عليه وورط بعض ضباطه وجنوده فى هذه الجريمة النكراء التى تشوه صورة العسكرية المصرية؟ ولقد أحسن المجلس العسكرى حين قدم اعتذارا رسميا للمصريين، وهذا سلوك حضارى، ولكن الاعتذار وحده لا يكفى فى مثل هذه الحالات، بل لا بد من التحقيق والمحاسبة حتى ينظف الجيش المصرى ثوبه من هذا الحدث.